الحديث عن أهمية الصلاة ومنزلتها في الإسلام لا يحتاج إلى كثير توضيح ومزيد بيان، فهي عبادة لا تعدلها أية عبادة، وهي عمود لا قوام للدين بدونه، مهمة جدا لدرجة أن فرضها احتاج إلى رحلة فريدة خالدة، إلى معراج، ليتلقاها الحبيب المصطفى مباشرة عن حبيبه، لذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قرة عينه وراحته المنشودة، وهي آخر ما وصانا به وهو على فراش الموت: “الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم”. إذا كان هذا حال الصلاة وذاك مقامها بين العبادات، فما السبيل إلى إقامتها كما يحب ربنا ويرضى؟ وكيف نرقى بصلاتنا إلى درجة الصلاح حتى تكون صالحة غير فاسدة، فيصلح بذلك سائر عملنا ولا يفسد؟
الكل يقبل على تعلم شروط صحتها ويجتهد في إقامة فرائضها وسننها، ولا ينسى ضبط مواقيتها وإقامتها وإحرامها وركوعها وسجودها وسلامها، فهل هذه هي الصلاة؟ وهل هذا كل ما يجب علينا فعله وتعلمه لتكون صلاتنا صالحة ويقبلها ربنا ولا ترد على وجوهنا؟
لاشك في أنه بهذا وغيره تكون الصلاة كاملة مقبولة، فهذا ظاهر الصلاة، فأين باطنها؟ هذا عمل الجوارح، فأين عمل القلب؟
لابد إذن من تكامل الظاهر والباطن ليكون النتاج صلاة كاملة، فما هو هذا الباطن؟ وما هو سر الصلاة الخفي الذي لا تكتمل من دونه.
سر الصلاة
قال الزمخشري رحمه الله: (العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم، فكان حقيقا بأقصى الخضوع) [الكشاف، ج 1، ص 11]. أقصى الخضوع هو ذاك الغائب المفقود في صلاتنا، اللازم اللازب لصلاح صلاتنا، ولا يمكن أن يكون أو يتحقق إلا بحضور القلب الذي هو روح الصلاة … ولا يمكن أن يحضر القلب إلا إذا حضرت الهمة، فالقلب تابع للهمة فلا يحضر إلا فيما يهمنا، فالحيلة إذن لإحضار القلب صرف الهمة إلى الصلاة، والهمة لا تنصرف إلى الصلاة ما لم يتبين لها أن الغرض المطلوب هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى وأن الصلاة وسيلة إليها، فحب الصلاة وحب الوقوف بين يدي الله عز وجل؛ مناجاة للحبيب المنعم، لاشك كفيل بصرف الهمة عما سواه، واليقين بعظمة من نقف بين يديه ومن نخاطبه ونناجيه ونرجوه وندعوه، واليقين التام أيضا بحقارة النفس وعجزها وافتقارها إلى خالقها، لاشك سبيل لمن جد في طلب أقصى الخضوع.
أسباب حضور القلب
لا يفسد باطن الصلاة ولا يلهي عن الحضور فيها إلا الشواغل الواردة التي كانت شاردة، فالدواء هو الجد كل الجد في دفعها دون كلل أو ملل، وحضور هذه الخواطر قد يكون أمرا خارجيا أو أمرا ذاتيا.
* فأما الأمور الخارجية: فهي كل ما يصل سمعنا، أو يظهر أمام أبصارنا فيلهينا ويفرق ما تجمع من فكرنا، ويجمع ما تشتت من همومنا، الراجع لضعفنا وسرعة انجرارنا، وعلاج ذلك يكون بقطع الأسباب إلى ذلك، من قبيل غض البصر والاقتراب من حائط والابتعاد من موضع منقوش أو فرش مزخرف والنظر في موضع السجود، حتى لا تتسع دائرة النظر ويتسع معها الانشغال والاهتمام بكل شاردة عوض الانشغال بما نحن مقبلون عليه.
أخرج ابن المبارك رحمه الله في مؤلفه “الزهد” حديثا مرسلا بإسناد صحيح يثبت ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم إذ أمر بتجديد شراك نعله، ثم نظر إليه في صلاته إذ كان جديدا، فأمر أن ينزع منها ويرد الشراك الخلق.
وأخرج الإمام النسائي من حديث لابن عباس بإسناد صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم كان له خاتم في يده وكان على المنبر فرماه وقال:“شغلني هذا، نظرة إليه ونظرة إليكم”.
* وأما الأمور الذاتية الباطنة: فلا يغني معها غض بصر أو لزوم حائط، بل يلزمها استعداد قبل تكبيرة الإحرام بالتفكير بما هو أجل وأعظم؛ ألا وهو الإقبال على الله عز وجل والوقوف بين يديه وحلاوة مناجاته واستمطار رحمته.
فالخواطر والشهوات الجاذبة للفكر والقلب لا تنفع معها المهادنة، بل لا بد من المجاهدة ورد القلب إلى حيث كان؛ إلى الصلاة حتى نظفر من صلاتنا بشطرها أو كلها ولم لا الظفر بالكينونة مع ربنا، فيكون معنا ويكتبنا مع المفلحين الذين قال عنهم الله عز وجل: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [المؤمنون، الآيتان 1-2].
فصلاة هؤلاء المؤمنين المفلحين مقرونة بالخشوع. ثم زاد الله عز وجل أن جعل سبيل الفلاح في الحفاظ عليها إذ يقول سبحانه: والذين هم على صلواتهم يحافظون [المؤمنون، الآية 9] فالفلاح الأكبر هو وراثة الفردوس، والخلود فيها هو ثمرة الحفاظ على الصلاة والخشوع فيها، قال تعالى: أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [المؤمنون، الآيتان 10-11]، ويؤكد هذا المعنى الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى إذ يقول: (روح الصلاة الخشوع فيها، وهذا لا يأتي إلا بصحبة الخاشعين، وبالكلمة الطيبة حين تخالط بشاشتها القلوب.. يحمل كل امرئ نفسه على الحضور في كل صلاته ما أمكن، فإنه لا يكتب له من صلاته إلا ما حضر فيه بقلبه ونيته مع الله عز وجل، والغفلات من طبيعتنا، فأدنى ما علينا وأقصى ما نستطيع أن نجتهد لنذكر الله كلما نسينا) [المنهاج النبوي، ص 156-157].
ما ينبغي أن يحضر في القلب
لا تجب الغفلة عن التنبيهات في شروط الصلاة وأركانها، فإذا سمعت المؤذن فأحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة وشمر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة.
* فأما الطهارة؛ فإذا بدأت بمكانك وثيابك وبشرتك، فلا تغفل عن لبك وقلبك، فطهره بالتوبة والندم على التفريط.
* وأما ستر العورة؛ فتغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق، فلا تنس عورات باطنك وفضائح سرائرك التي لا يطلع عليها إلا ربك عز وجل.
* وأما استقبال القبلة؛ فاصرف وجهك جهة البيت وقلبك إلى الله عز وجل.
* وأما الاعتدال قائما؛ فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل.
* وأما النية؛ فاعزم على إجابة الله عز وجل في امتثال أمره بالصلاة، وإتمامها، وإخلاص كل ذلك لوجه الله سبحانه، رجاء لثوابه وخوفا من عقابه وطلبا للقرب منه.
* وأما التكبير؛ فإذا نطق به لسانك فينبغي ألا يكذبه قلبك، فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه فالله يشهد إنك لكاذب.
* وأما دعاء الاستفتاح؛ فأول كلماته قولك: “وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض…” وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر، فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة، وإنما وجه القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السماوات والأرض، فانظر إليه، أمتوجه هو إلى أمانيه في السوق والبيت.. أم مقبل على فاطر السماوات؟
* وأما القراءة؛ فإذا تلوت الفاتحة فكن من الذين قال فيهم الله عز وجل فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد: الحمد لله رب العالمين فيقول الله عز وجل: حمدني عبدي”.
* وأما الركوع والسجود؛ فينبغي أن تجدد عندهما ذكر كبرياء الله سبحانه، وترفع يديك مستجيرا بعفو الله عز وجل من عقابه، وعندما تهوي إلى السجود، أعلى درجات الاستكانة، فتمكن أعز أعضائك وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب فإنك تكون قد وضعت نفسك موضع الذل، فاعلم أنك وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى أصله.
* وأما التشهد؛ فإذا جلست له فاجلس متأدبا، وصرح بأن جميع ما تدلي به من الصلوات والتحيات لله، وأحضر في قلبك النبي صلى الله عليه وسلم وشخصه الكريم وجميع عباده الصالحين.
* وأما السلام؛ فاقصد فيه السلام على الملائكة الحاضرين، وانو ختم الصلاة به، واستشعر شكر الله سبحانه على توفيقه لإتمام هذه الطاعة، وتوهم أنك مودع لصلاتك، وأنك ربما لا تعيش لمثلها.
وفقنا الله جميعا لإقامة الصلاة حق الإقامة، وأعاننا على أدائها ظاهرا وباطنا، وجعلنا جميعا من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون.