بعد انقضاء شهر الصيام، أوجب النبي صلى الله عليه وسلم إخراج زكاة الفطر طهرة للصائم، وهي صدقة محددة المقدار تعطى للفقراء والمساكين، وذلك قصد إدخال الفرح عليهم، وليس الغرض هنا التفصيل في أحكامها، ولكن المنشود هو التأكيد على البعد الاجتماعي لهذه الشعيرة، وذلك بتعميم الفرحة وسط المجتمع، عن طريق التفكير في الآخر الذي يفتقد مقومات العيش الكريم، ولا يمتلك ما يوفر به ضروريات المعاش من أكل وشرب ولباس، مما يجعل هذا الخصاص يكدر فرحة طبقة فقيرة تعاني العوز والحاجة، وهما من منغصات الحياة التي تكدر صفاء الإنسان في يوم المفروض فيه أن تعم الفرحة كل بيت، وتنشرح القلوب بقيم التضامن والتعاون التي تغرسها عبادة الصيام في نفوس الصائمين، وإن كان الواقع يؤكد أن الذين ينغصون فرحة الصائم هم ناهبو المال العام المستفيدون من الريع، وأباطرة الفساد الذين يدمرون مقومات الحياة المطمئنة.
وتعميم السرور لا يجب أن ينسينا فئة مظلومة من المسلمين، فما ينغص سعادتهم بالعيد أكبر من مجرد توفير لقمة تسد جوعتهم، إنه الحاجة إلى الأمن والسلام، فما يتعرضون له من التهديد والحرمان والظلم يطفئ أنوار الفرحة في قلوبهم، فيكون التضامن معهم، ونصرتهم مما يثلج صدورهم أكثر من توفير لقمة طعام مع ضرورتها، لهذا غدا من الضروري تعميم السرور بجميع الوسائل المتاحة حسب ما يتطلبه الظرف والموقف.
وهكذا، فالتأمل في هذه العبادة المالية التي تتوج مسار المؤمن بعد شهر من العبادة يلاحظ أن جوهرها يربط بين معنيين عميقين يكتنفان أفعال العباد؛ الأول: هم الخلاص الفردي، وذلك باعتبار زكاة الفطر طهرة للصائم يغفر بها الله ذنوبه. والثاني: التفكير في هموم المجتمع، وذلك بالتفكير في الآخر الذي تجمعنا به العقيدة والإيمان والأرض.. وهنا تتجلى المزاوجة بين الذات والآخر باعتبار الجسم الإسلامي كالجسد الواحد، بحيث إن خلاص الذات المؤمنة لا يكتمل إلا بإشراك الآخر في الفرحة، وهذا ما أشار إليه الحديث النبوي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات” 1.
من الحديث نستنتج الغاية من فرض زكاة الفطر، ويمكن تلخيصها في حكمتين: الأولى مغفرة ذنوب الصائم، والثانية “تتعلق بالمجتمع وإشاعة المحبة والمسرة في جميع أنحائه، وخاصة المساكين وأهل الحاجة فيه، فالعيد يوم فرح وسرور عام، فينبغي تعميم السرور على كل أبناء المجتمع المسلم، ولن يفرح المسكين ويسر إذا رأى الموسرين والقادرين يأكلون ما لذ وطاب وهو لا يجد قوت يومه في يوم عيد المسلمين” 2.
وهكذا “فتعميم السرور على كل أبناء المجتمع المسلم” يعتبر من المطالب الشرعية الضرورية، التي تسعى لتحقيقها مجموعة من العبادات، فقد يتطلب إدخال السرور عليهم مدهم بالطعام والمال وسد جوعتهم، وإغناؤهم عن السؤال في هذا اليوم. أما من هم في حاجة إلى الأمن والسلام فلا يتحقق “تعميم السرور” إلا بنصرتهم ونجدتهم والتضامن معهم ورد العدوان عنهم، إذ كيف تكتمل فرحتهم وهم في مرمى صواريخ الأعداء. فالشعور بالأمن على النفس والعرض والمال من أساسات الطمأنينة التي تحقق معاني السعادة والفرح والسرور، فهؤلاء المستضعفون والمظلومون لن يستشعروا معاني العيد إلا بشعورهم أن هناك أمة تساندهم وتقف إلى جانبهم. فالمسلمون في كافة أنحاء العالم يجب عليهم الانخراط في واجب الجهاد لرفع الظلم عن المستضعفين والمظلومين. يؤكد هذا المعنى الدكتور القرضاوي رحمه الله في كتابه (فقه الجهاد)، فعند استحالة رد العدوان من طرف أهل البلد يصبح ذلك واجبا على جميع المسلمين، “وهنا ينتقل واجب الجهاد العيني إلى المسلمين من حولهم، حتى يشمل المسلمين كافة في أنحاء العالم، عليهم أن ينفروا خفافا وثقالا ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، كل بما يقدر عليه. وهذا واجب المسلمين تجاه أي جزء من أرض الإسلام يحتله عدو غاز كافر، فكيف إذا كان هذا الجزء هو أولى القبلتين، وأرض الإسراء والمعراج والمسجد الأقصى. وهنا يتأكد الوجوب على الأمة إنقاذا للمسجد الأقصى ولمقدسات الأمة في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين كما وصفها القرآن الكريم” 3.
فتعميم السرور والفرح يدفع المسلم، ذو العقيدة الإيمانية الصادقة، إلى استحضار إخوانه في أرض الرباط، أرض الإسراء والمعراج، ومشاركتهم همومهم ومعاناتهم، مع السعي إلى نصرتهم بما يستطيعه وتصل إليه يده، فتعميم السرور في العيد يتجاوز كل الحدود المصطنعة، فإذا كانت صدقة الفطر واجبة في حق الفقير، فإن النصرة تكون أوكد في حق المضطهد والمظلوم لأن كلاهما يرميان إلى إدخال الفرح والسرور على المسلمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (لا يخذله)، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” 4.
نسأل الله تعالى أن يفرج عن المسلمين كربهم، ويزيل عن الأمة أسباب الفقر والظلم، وينزل نصره على المرابطين في الأرض المقدسة، لتعم حينئذ الفرحة وتنشرح القلوب وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 4-5].