كان يوم جمعة مباركا… صلّى الناس فيه صلاة الجمعة وعادوا بثيابهم البيضاء إلى بيوتهم، فتحلّقوا كالعادة حول قصع الكسكس التي أعدّتها جدّات وأمّهات تحافظن على التقاليد والعادات، كما تحافظن على الأوراد والصلوات. أكلوا وضحكوا وحمدوا الله على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى.
كان كلّ شيء هادئا وسط القرية التي تقع فوق جبال الأطلس وكأنها راكب ارتحل جملا.
كان “فريد” هناك في مسجد هذه القرية -التي ساقته الأقدار إليها معلّما في السلك الابتدائي-… مسجد صغير حجمه، متواضع بناؤه، بسيط فراشه… كان هناك بعد صلاة المغرب مع الإمام وتلاميذه الذين يجلسون جميعا لقراءة الحزب حتى يثبتوا حفظهم لكتاب الله، ويتعلموا من شيخهم المحافظة على الأوراد.
كان يشعر بصفاء قلبي لا مثيل له… كان يشعر بقرب الله تعالى… بمعيّته سبحانه… بكلامه معهم وخطابه لهم…
بعد قراءة الحزب وصلاة العشاء انصرف الجميع إلى بيوتهم راشدين…
وكعادته في كلّ ليلة كان المعلّم الشاب يغتنم فرصة سكون الليل في هذه القرية النائية -القريبة من السماء، البعيدة عن الغوغاء، الضاربة صفحا عن هوس العالم- للحديث مع أمّه الغالية التي تركها قهرا في مدينة صاخبة بحثا عن وظيفة -تحفظ ماء الوجه- طال انتظارها.
كان يحلو له أن يسامرها ويواسيها وهو جالس على حجر تحت أشجار الزيتون المباركة. كانت النجوم تسترق السمع، وكانت السماء تتلذّذ بهذا الحديث الطيب الذي يدور بين ولد ووالدته. وقبل أن تمطره الحانية بدعواتها الراقية التي كانت تخترق حجب السماء كلّ ليلة… شعر فريد بالأرض تتمايل من تحته، وبالشجر يتراقص من فوقه.
ما هذا يا ربّ… سبحانك سبحانك… لا إله إلا الله.
انقطع الخط الهاتفي بينه وبين أمّه…
خرّ لله ساجدا… رحماك يا ربّ… ما منك مفرّ ولا مهرب…
لطفك يا الله…
لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين…
ارتفعت الأصوات الخائفة… هرع النّاس من بيوتهم إلى الخلاء حيث لا يوجد بناء…
دقيقة مرّت كأنّها الدّهر كلّه…
توقّفت الأرض عن ارتجاجها واهتزازها… سكن كلّ شيء.
انتظروا أن ينزاح هذا الغمام الذي بلغ عنان السماء… أتربة متصاعدة من هنا وهناك… انقطع التيار الكهربائي… أشعل الناس -أو من نجا من النّاس- هواتفهم ليروا حقيقة ما وقع.
إنها كارثة… دمار شامل…
انطلق فريد ومن كان معه نحو بقايا البيوت… اختلطت الأصوات ببعضها؛ صراخ… بكاء… أنين… نداءات استغاثة.
وَجَم الجميع… ذُهلوا لهول ما رأوا… بين غمض عين وفتحها… أصبحت القرية حصيدا كأن لم تغن بالأمس… كأن القوم ما كانوا… قرية بكاملها طمرت تحت الأرض.
بعد دقيقة استفاقوا من هول الصدمة… أخذوا يبحثون عن الناجين… تتبعوا الأصوات المستغيثة…
يا للهول… “التاجر عسو” صاحب أفره بيت في القرية… أخرج زوجته وابنته من البيت فنجتا. ولم يتحمّل المسكين خسارة ماله، فعاد ليأتي بالحقيبة التي كان يجمع فيها ماله… لكنّ الزلزال لم يمهله ثانية واحدة، فخرّ عليه السقف فأرداه قتيلا. كان ميتا وهو يحتضن الحقيبة.
لا إله إلا الله…” السيدة عطوش”… “السيدة يامنة”… “السيدة خدوج”…كلهنّ تحت الأنقاض.
وانهار فريد وبكى بكاء مريرا حينما وجدوا “السيدة فاظمة” جثة هامدة وهي منحنية الظهر قد ترّست على صغيريها تحميهما… لكنّ قضاء الله نزل… فقضت نحبها هي وطفلاها.
وما إن انبلج الصبح حتى كانت الألطاف الإلهية تسوق آلاف المتطوعين الذين قدموا من كلّ جهات الوطن ليواسوا إخوانهم في مصابهم الجلل، وليقدّموا لهم يد المساعدة والعون بلا كلل ولا ملل.
أتوهم بالطعام والثياب والفراش والغطاء والسواعد القادرة على الحفر والنبش عن الأحياء والأموات تحت الأنقاض.
بعد وجبة الإفطار التي كان أهل القرية في أمسّ الحاجة إليها، بدأ التنقيب عن جثث الشهداء.
كان “فريد” يتزعم الأشغال، وكان شباب القرية النّاجون يدلّونهم على البيوت بيتا بيتا، فيستخرجون الموتى. لكنّهم قدّموا أول الأمر نداءات الاستغاثة وبحثوا عن الأحياء.
بعد ثلاثة أيام متوالية من العمل الدؤوب، كانت الحصيلة مهولة.
آه كم من قتيل وكسير وجريح…
مات نصف سكان القرية، وأصيب النصف الثاني بجروح وكسور خطيرة ولم ينج إلا بعض الصبيان والشباب وقلّة من النساء.
كان “فريد” ينظر إلى ما يجري حوله بأسى كبير… مدرسته اختفت… تلاميذه جلّهم ماتوا. القرية العامرة أصبحت خرابا.
حقّا إنّه لأمر يدعو للجنون… ما هوّن على هؤلاء النّاجين إلا هذا الدعم المعنوي والمادي الذي قدّمه إخوتهم القادمون من جلّ جهات الوطن.
إنّ الصورة لتبدو للوهلة الأولى قاتمة مخيفة مرهبة وأنت ترى حجم الدمار المهول الذي خلّفته ارتعاشة الأرض تلك… إنّها لصورة حزينة محزنة تلك التي ترى فيها مئات الجثث المطمورة تحت الحجارة والطين، وتسمع عشرات الآهات ويقرع قلبك صوت الأنين، ثم يفتت كبدك أيتام ذابلة ضامرة أجسادهم، شاحبة وجوههم، رثّة ثيابهم… جثامينُ صغيرة -نجت من موت محقّق- تقف حائرة تائهة تحرّكها رياح الغمّ والكدر كما تحرّك رياح الخريف أوراق الشجر. أيتام رزئوا في آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم وفقدوا حتى المأوى الذين كان يقيهم حرّ الصيف وقرّ الشتاء.
لكن حينما ترفع عينيك عن الأرض وتنظر حولك إلى الجبال. ترى جمالا ما مثله جمال… ترى عيون ماء زلال قد انبجست بفضل الله… ترى شلالات انفجرت بأمر الله… ترى أرواح رجال ونساء وأطفال ترتقي إلى السماء حاملة وسام الفخر من درجة شهيد -دون أن يحمل أحدهم السلاح يوما في سبيل الله- اصطفاء منه سبحانه وكرما… ترى قوافل خير -تحمل من كلّ أنواع الطعام والشراب والفراش والغطاء والكساء- سيقت بإذن الله.
ترى تآزر المومنين والمومنات… وترى توادّهم… وترى كيف أنهم كما وصفهم رسول الله ﷺ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أي جمال هذا يا أهل المغرب…!
أي صورة رائعة خالدة هاته التي رسمتموها…!
هذه عجوز تحمل زيتا تبعث به لأخواتها المنكوبات، وهذا شيخ يأتي على دراجته الهوائية حاملا نصف كيس من الدقيق قد ترك لأهله مثله أو أقلّ منه، أعطاه لجمعية ما وانصرف راشدا يرجو وجه ربّه، وتلك امرأة تقول لبعض الشباب والله ما عندي شيء أعطيكم إياه إلا خاتمي هذا. خذوه… واشتروا بثمنه طعاما وابعثوا به للمتضررين من الزلزال.
أي إيمان هذا يا أهل الحوز…!
رجل رثّ الثياب، ضامر الجسد، يتكلّم مع إحدى القنوات الأجنبية بفرنسية سليمة قائلا: “الله أعطى والله أخذ… كان لي بيت وأهل ومتاع… لم يبق شيء… لا يهم… فالأمر أمر الله ليس أمري… هو صاحب الأمر وأنا عليّ التسليم له”. وآخر يقول للمتطوعين القادمين من كلّ جهات المغرب: “الحمد لله أنّ الزلزال أصابنا نحن ولم يصبكم أنتم… فلو أصابكم أنتم في البيضاء أو الرباط أو طنجة أو غيرها من المدن الكبرى ما وجدنا ما نعطيكم، ولا استطعنا أن نواسيكم”.
إن في قدر الله للطفا… وإن آياته لتأتي تارة مصحوبة بصفات القدرة والقوة والعظمة والجلال فتلين القلوب وتخضع، وتستكين النفوس وتشبع، وتسجد الجباه وتتضرع، وتأتي تارة مصحوبة بصفات الجمال والكمال، فتذوب الأفئدة في ربّها حبًا وشوقًا، وتشرئبّ الأعناق لباريها توقا، ولا يشين الصورة الرائعة لذاك المزيج بين صفات الجلال وصفات الكمال، إلا رعونات مصاصي الدماء الذين ألفوا الصيد في الماء العكر فبعضهم استغل الفرصة ليبيعك بضاعته المزجاة بأضعاف ثمنها، وبعضهم استغل شفقة الناس ورحمتهم ليسرق ما تصدّقوا به، وبعضهم اتخذها فرصة لتحقيق أعلى نسب المشاهدات على وسائل التواصل الاجتماعي متاجرا بآلام النّاس وأحزانهم، ثم دعك ممن ليسوا منّا ولسنا منهم.
لكن عموما… الصورة رائعة… وستبقى خالدة أبد الدهر… وكلّ يعمل على شاكلته، فمن سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنّة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها…. والله لا يضيع أجر المحسنين.
ونسدل الستار على هذه المشاهد المختلفة أشكالها وألوانها ومشاعرها بهذه الآية الكريمة من سورة فصلت: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ …