– لحظات الكوارث هي لحظات للتأمل الفردي في الحال والمآل لمن كتب الله له حياة جديدة لم تكتب للكثير ممن كانوا جواره وقت تحرك نداء القدر؛ إذ في ثوان معدودات انقلبت الاهتمامات واختلف ترتيب الأولويات، بل قل توارى كل شيء ما سوى الحقيقة الناصعة؛ كل شيء ما سوى الله زائلٌ، كل شيء ما سوى الله ضعيفٌ، كل شيء ما سوى الله عبيدٌ.
– لحظاتٌ يدرك فيها الإنسان حجمه الذي نسيه أو تناساه في غمرة تنافس الدنيا وحظوتها وشهوتها وزينتها وبهرجتها. فيصير كل ما ظنَّه خالدا فانيا في ضميره الذي صحا فجأة، وتصير الدنيا في عينه مجرد طريق ظنَّها دارَ قرارٍ، وأنه فيها مجرد مسافر لا مستقر. وأنها مجرد قنطرة ظنها مسكنا، وأنه فوقها مجرد عابر لا مقيمٍ. وإلا فكيف يفني عاقل عمره ووديعة الله عنده يبني بيتَ خلودٍ على قنطرة!
– لحظات الكارثة هي أيضا فرصٌ قَدرية للمصالحة الجماعية بمختلف أبعادها من النواة الصغرى للمجتمع (الأسرة، العائلة، الحي، الجماعات الصغيرة…) إلى القطر الأوسع للجماعة السياسية؛ فكما رأينا مواساة بين أفراد وعوائل فرقتهم القطائع يسأل بعضهم بعضا لحظة الهزة وقد تناسوا كل حقد، واختفى كل شنآن، ودَفِئ كل صقيع، وذاب كل جليد. واكتشفوا أخيرا أن الأسرة والأقارب والجيران هم السند والحضن وقت المدلهمات لا الاعتداد بالأموال والممتلكات… اشرأبت أعناق الشعب إلى تداعي نخب الوطن وقواه، كما تداعت كل فئات الشعب نحو القرى المنكوبة، إلى ميثاقٍ يبدع مخارج تخرج الوطن من تحت أنقاض خراب عقود الركود والكساد في كل المجالات.
– هي لحظات للوقوف عند حجم ما فاتنا في زمن التنمية الذي صُرف في معارك هامشية استنزافية لمقدرات الوطن وطاقاته؛ هي فرصة لاكتشاف فداحة فاتورة طغيان المصالح الخاصة الضيقة على المصلحة العامة أثناء التصدي للشأن العام.
فكم من مشروع للبنيات التحتية ذهبت أمواله للحسابات الخاصة كان سيخفف آلام أسر منكوبة في قرى الهامش وسط قمم الجبال!
وكم من فرصة للتضييق على الضمائر الميتة التي امتصت لعقود خيرات مناطق وجهات البلد ضيعناها بدعاوي كثيرة أدينا ثمنها مضاعفا؛ ثمن الصمت فقرا وحاجة وحرمانا، وثمن عواقبها هشاشة بنيات تحتية أثقلت كفة الخسائر..
– لحظة الكارثة والفاجعة هي فرصة أيضا لإدراك الجميع أن قوة الأوطان في لحمة أبنائها. وتراحم وتلاحم المغاربة في أوقات الشدة، وما سطروه من صور أثلجت صدور المواطنين وأذهب عقول المراقبين، درس بليغ، بل حجة على الجميع أننا نملك كل مقومات بناء وطن قوي ودولة قوية. كيف لا ونحن شعب المغرب!
– الكارثة فرصة للقطع مع حبال الماضي والاتجاه نحو المستقبل بسواعد الجميع يسند الجميع، والجميع ينقذ الجميع. ففي وقت الكارثة ستمد يدك لمن هو تحت الأنقاض يحتضر وعيناه ترمقك أملا، لأنك ببساطة اكتشفت أنه لم يكن “عدوا” كما كنت تتخيله، بل مجرد غيور خاصمك في الوسيلة وليس في الغاية…
– الكارثة محنة ومنحة.. الكارثة قدر فجائي أقرب للمعجزات التي تأتي مرة واحدة لتصحيح ما استعصى على التصحيح بأدوات التصحيح السببية التدافعية…
– هي رسائل لمن له قلب حي وألقى سمعا مباشرا دون وسائط، وفهم آياته الله في الأنفس والآفاق…
فهل نكون في مستوى أن نجعل من الكارثة كرامة؟
رحم الله الموتى وجعل مقامهم شهداء عند الله المقدر الرحيم، وشافى الله الجرحى وفك عزلة المحاصرين، وستر عورة المشردين، وخفف آلام المكلومين…