من كتاب المدهش لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله.
إخواني، تفكروا في الذين رحلوا أين نزلوا، وتذكروا أن القوم نُوقشوا وسُئلوا، واعلموا أنكم كما تعذلون عذلوا، ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا.
لأبي العتاهية:
سألــت الدار تخبرنـي ** عن الأحبـاب ما فعلـوا
فقالت لي: أناخ القــوم ** أيامـا وقــد رحلـوا
فقلـت: فأيـن أطلبهـم ** وأي منـازل نزلــوا؟
فقالت: بالقبور وقـد ** لقوا والله ما فعلوا
أناس غرّهــــم أمــل ** فبادرهـم به الأجــل
فنــوا وبقي على الأيـام ** ما قالوا وما عملـوا
وأثبــت في صحائفهـم ** قبيــح الفعل والزلل
فــلا يستعتبـون ولا ** لهم ملجــأ ولا حيــــل
نـدامــى في قبورهـم ** ومـا يغني وقـد حصلوا
أين من كانت الألسن تهذي بهم لتهذيبهم، وأصبحت فلك الاختبار تجري بهم لتجريبهم. أقامت قيامتهم؟ منادي الرحيل لتغري بهم لتغريبهم، فباتوا في القبور وُحْدَانا لا أنيس لغريبهم. أين أهل الوداد الصافي في التصافي؟ أين الفصيح الذي إن شاء أنشأ في القول الصافي؟ أين قصورهم التي تضمنتها مدايح الشعراء؟ صار ذكر القوى في القوافي، لقد نادى الموتُ أهلَ العوالي والقصور العوالي الطوافي: تأهبوا لقدومي، فكم غَرْثان طوى في طوافي! رحل ذو المال وما أوصى في تفريق كدر أو صافي، ولقي في مره أمرا مرّا لا تبلغه أوصافي، ذاقوا طعام الآمال فانتزع من أفواههم يوم المآل، وعاد الخوى في الخوافي، عوى في ديارهم ذئب السقام بتكذيب العوافي، انقطعت آمالهم وصار كل المنى في دفع المنافي، تزلزل ودّ أحبابهم والتوى وبتُ ألتوي في التوافي، تالله لقد نال الدود والبلى ما أرادا منهم وألفيا في الفيافي، آلت قبورهم إلى الخراب أولا، فلا يدري أهذا قبر المولى أو لا، وهم سواء في السّوافي، كم أعرضوا عن نصيح وقد رفعوا ما تلافى التلافي! كم ندموا على ضياع زمانهم الذي خلا في خلافي! كم رأيت عاصيهم قد أعرض عني إلى عدوى والتجأ في التجافي! أما أخبرتهم بوصف النار أنها (نزاعة للشوى) في الشوافي؟ فاعتبر بحالهم فإنه يكفّ كفّ الهوى وهو الواعظ الكافي. أين الأبصار الحدائد قبل إحضار الشدائد؟ أما استلبت القلائد من ترائب الولائد؟ لا بد من إزعاج هذا الراقد فيقع الفراق بين فريق الفراقد؟ يا موثقا في حبالة الصائد! والله ما كذبك الرائد. يا عمِيَّ البصيرة ولا قائد، كم أضرب في حديد بارد!
ذهبت أعماركم في طلاب الشهوة، والموت قد دنا فما هذه السهوة؟ والقلوب غافلة فإلام القسوة؟ والصلح معرض فحتّام الجفوة؟ أين رب المال؟ أين ذو الثروة؟ أما فَرَسَ الموتُ ذا الفَرَسِ، وأخلى الصهوة؟ طوبى للمتيقظين إنهم القدوة! علموا عيب الدنيا فما أمسكوا عروة، وأنت في حبها كقيس وعروة. أيحسن بعد الشيب لهو وصَبْوَة؟ أأبقى نأي الزمان طيب ناي وقهوة؟ قُرِّبت نوقُ الرحيل مساء وغدوة، جذبت أيدي المنون كرها وعنوة. يا قليل التدبير ولا عقول النسوة! إلى كم عيب وعتب أما فيكم نخوة؟ واعجبا لتاجر يرضى بتعب شهر ليتمتع بربحه سنة! فكيف لا يصبر أيام عمره القليلة ليلتذ بربحها أبدا؟ يا من يروح ويغدو في طلب الأرباح، ويحك! اربح نفسك. يا أطفال الهوى! طال مكثكم في مكتب التعليم، فهل فيكم من أنجب؟ اقرأوا أدلة التوحيد من ألواح أشباحكم، وتلقفوها من أنفاس أرواحكم قبل أن يستلب الموت من أيدي اللاهين ألواح الصور، ويمحو سطور التركيب بكف البلى. من رأى بعين فكره معاول النقض في هذا المنزل ناح على السكان.
يا هذا! مشكاة بدنك في مهابّ قواصف الهلاك، وزجاجة نفسك في معرض الانكسار، فاغتنم زمان الصفو فأيام الوصل قصار. كم يلبث قنديل الحياة على عواصف الآفات! أنفاس الحي خطاه إلى أجله درجات، الفضائل كثيرة المراقي، وفي الأقدام ضعف، وفي الزمان قصر، فمتى تنال الغاية؟
وقف قوم على راهب فقالوا: إنا سائلوك أفمجيبنا أنت؟ قال: سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع، والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه ذو اجتهاد، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم، فإن خير الزاد ما أبلغ البُغية.
إخواني، الأيام صحائف الأعمار فخَلِّدُوها بأحسن الأعمال، الفرص تَمُرُّ مرَّ السحاب والتواني من أخلاق الخوالف. من استوطأ مركب العجز عثر به تزوج التواني بالكسل، فولد بينهما الخسران. كان عمر وعائشة رضي الله عنهما يسردان الصوم، وسرد أبو طلحة رحمه الله أربعين سنة، وصام منصور بن المعتمر رحمه الله أربعين سنة، وقام ليلها، وكان عامر بن عبد الله رحمه الله يصلي كل يوم ألف ركعة، وختم أبو بكر بن عياش رحمه الله في زاوية بيته ثماني عشر ألف ختمة، وكان لكهمس رحمه الله في كل شهر تسعون ختمة، وكان عمير بن هاني رحمه الله يسبح كل يوم مائة ألف تسبيحة.صافحوا النجم على بعد المنال ** واستطابوا القيظ من برد الظلال
واستذلوا الوعر من أخطارها ** إنما الأخطار أثمان المعالي
ركبوا الضر إليها ربما ** صحت الأجسام يوما بالهزال
وجروا يوما إلى غاياتها ** بالعوالي السمر والقب العوالي
وكان الأسود بن يزيد رحمه الله يصوم حتى يخضر ويصفر. وكان ابن أدهم رحمه الله كأنه سفود من العبادة، وكانت رابعة رحمها الله كأنها شنّ بال، ومات حسان بن أبي سنان رحمه الله فكان على المغتسل كالخيط، وكان محمد بن النضر رحمه الله لو كشط جميع لحمه لم يبلغ رطلا.
أكبر دليل على الحب نحول الجسم واصفرار اللون.
للحارثي:
سلبت عظامي كلها فتركتها ** مجردة تضحي لديك وتخضر
وأخليتها من مخها فكأنها ** أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت باسم الحبيب تَقَعْقَعَتْ ** مفاصلها من خوف ما تنتظر
خذي بيدي ثم ارفعي الثوب تنظري ** ضنى جسدي لكنني أتستر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ** ولكنها روح تذوب فتقطر
قال الجنيد رحمه الله: دخلت على سري السقطي رحمه الله، فمدّ جلدة ذراعه وقد يبست على العظم، فما امتدت فقال: والله لو شئت أن أقول: هذا من محبته لقلت.
وهواك ما أبقى هواك ** على فيـــك ولا تركْ
أيلومني فيـــك الـذي ** يَزْرِي علي ولم يــركْ؟
رِفْقا بعبــــدك سـيدي ** هذا عبدك قد هلـكْ