سال مداد كثير حول مساوئ التعليم عن بعد، عن فشله وآثاره على الجسم التعليمي، بل وتداولت بعض منصات التواصل الاجتماعي مقاطع ساخرة منه، معبرة عن سخط العامة، وقلما نجد قلما منصفا تهمم به وحفّز إليه ورغّب فيه. هدف هذا المقال ليس الدفاع عن المقاربة التربوية التي اعتمدتها الوزارة، ولا عن استفرادها بالتخطيط والتنفيذ، ولكن الهدف الأساس هو كيف نكون إيجابيين في وضع غير عادي؟ كيف نساهم عن بعد في الرفع من جودة التعليم عن بعد؟ هل ننخرط فيه طوعا، فننال محبة الله والناس؟ أم نبكي على الأطلال ونلعن الظلام؟
ما هو التعليم عن بعد؟
التعليم عن بعد هو أحد طرق التعليم الحديثة نسبيًا، يعتمد مفهومه الأساس على وجود المتعلم في مكان يختلف عن المصدر، والذي قد يكون الكتاب أو المعلم. ويهدف إلى جذب طلاب لا يستطيعون – تحت الظروف العادية – الاستمرار في برنامج تعليمي تقليدي. أما مصطلح التعليم عبر الانترنت، فيطلق على ذلك الشكل المستحدث من أشكال التعليم، الذي يعتمد كليا على شبكة الإنترنت من حيث استعراض المناهج أو البرامج. فهو بذلك شكل من أشكال التعليم المتقدم، لاعتماده على وسائل تكنولوجية متطورة، مسايرا بذلك ما وصلت إليه حضارة الإنسان التقنية. لكن الغريب في الأمر بدل أن نكون سباقين إليه طوعا، وجدنا أنفسنا مدفوعين إليه كرها، فالوزارة لجأت إليه كبديل للتعليم المدرسي الرسمي، وكحل ترقيعي بامتياز، يسد ثغرات خرقها ارتجال عقود، هذا إن أحسنا الظن.
ما هو دور المجتمع؟
عُرف المغاربة عبر التاريخ بالبذل والإنفاق في الشدة والرخاء، شيمة حميدة تدل على الرفعة والمجد، واتصافهم بهذا الخلق الكريم ليس مجرد شعار يرفع، بل خلق متجذر في أوصال الأمة الإسلامية جمعاء، استقوه من المنبع الصافي والمورد الشافي: شريعة الإسلام السمحة. فالبذل والإنفاق من الصفات الحميدة التي جاء الشرع وزكاها وحث عليها، وذلك لما لهما من الآثار العظيمة على الفرد والمجتمع، وأبواب البذل كثيرة، لكن وكما يقال: لكل مقام مقال، والمقام “كورونا” والمقال “البذل للرفع من جودة التعليم في زمن كورونا”.
فعلى من تقع مسؤولية البذل؟ وكيف؟
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لاَ حَسَدَ إِلَّا في اثْنَتَيْنِ رَجُل آتاهُ اللهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وَرَجُل آتاهُ الله الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِها وَيُعَلِّمُهَا” (1)، من خلال الحديث الشريف نلامس مدح النبي صلى الله عليه وسلم لصنفين من الناس، صنف آتاه الله المال، وصنف آتاه الله العلم، والجامع بينهما هو البذل والإنفاق في سبيل الله. فكيف نقتدي بهما في زمن هذا البلاء، بل وفي كل وقت وحين، لنكون في مقامهما، وننال فضلهما؟
بذل العامة
والمقصود بالعامة، عامة الناس؛ نساء ورجالا.
كان المنفقون من المسلمين – حتى عهد قريب – يعتبرون من أوجه البر كفالة طالب العلم ورعايته وتمويله (2)، ففي القرووين بفاس مثلا، كان العالم يأخذ الطالب الوافد إلى أحد التجار المتطوعين الباذلين في المدينة، فيتكفل بمأكله ومشربه وملبسه، بل وحتى مصروف جيبه، فيكفيه هذا الأمر طلب شواغل الدنيا ليتفرغ للتحصيل العلمي، ولذلك برز علماء أفذاذ ورثوا العلم الصحيح.
ولم يقتصر دور البذل على الرجال فقط، بل كان للنساء دور كبير أيضا في نشر العلم وتعميمه، حيث كنّ يتبارين في إطعام قارئ القرآن وطالب العلم، والمساهمة من أموالهن في بناء المدارس والجامعات، ولعل فاطمة الفهرية رحمها الله التي أنفقت إرثها كله وأسست جامعة تدرس العلوم بشتى أنواعها وتخرج كبار العلماء خير مثال، فكل ما بذلته من ثروتها وما كرسته من جهد كانت أعمالا عادت على الناس بالفائدة والخير العميم إلى يومنا هذا.
بهذه الجهود حافظت الأمة على بقائها المعنوي، ونحن اليوم مدعوون أكثر مما مضى إلى التشبث بهذا المكتسب، بل وإلى مزيد من البذل والعطاء، فكم من دولة أصبح تفوق تعليمها نموذجا يحتذى بفضل بذل المؤسسات المدنية غير التابعة للدولة، “ففي الولايات المتحدة الأمريكية يختص التعليم الحر لا سيما التعليم الجامعي والعالي بنصيب الأسد، ثمانون في المائة من تعليمهم حر يعيش بالمنح الخاصة والتبرعات الإحسانية والقرض المسهل للطالب، يرد ما اقترضه بعد إنهائه الدراسة ودخوله في النشاط الاقتصادي، يكفي ذكر جامعتي “هرفرد” و”ييل” اللتين تألقتا في سماء العلوم منذ ما يناهز ثلاثة قرون، وخرجت الصفوة القائدة لحركة الاختراعات المتقدمة” (3).
وفي ظل هذا الوضع الاستثنائي، وجب على عامة الناس من المجتمع، أن يكون لهم دور فعال في المساهمة الفعلية في التعليم عن بعد، بالبذل والإنفاق على كل ذي معسر من التلاميذ والطلبة الذين لم تسعفهم ظروفهم الاجتماعية الصعبة من أجل مسايرة الدراسة عن بعد، وذلك بما قل أو كثر، فكم من طالب علم لا يملك ثمن تعبئة الهاتف، ناهيك عن امتلاك حاسوب أو هاتف محمول. إنهم بيننا في أحيائنا، بل ومن أقاربنا، تمنعهم عفتهم عن السؤال، فلنسرع إلى مساعدتهم، ولنغنم قبل فوات الأوان.
بذل أهل العلم
كان للعلماء دور كبير في بذل العلم، علماء متطوعون زاهدون حارثون لآخرتهم، كانوا يخافون كتمان العلم عن الطلبة وعن العامة، مستحضرين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه اللهُ بلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامةِ” (4)، كانوا يضعون هذا الحديث نصب أعينهم، حتى أن منهم من كان يبدأ حصته من بعد صلاة الصبح إلى ما بعد صلاة العشاء. وهذا ما يؤكده الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله بقوله: “كان العالم في مسجده مركز إشعاع إليه يهرع السائل، وعليه تطرح المسائل، ومن توجيهه وبحرمته في المجتمع يتعارف الخيرون، ويرصدون ذات اليد وذات المودة والعناية لمصارف المعروف، كان في مقدمتها تشجيع العلم” (5). فالعلماء طوق النجاة، لذلك رفع الله قدرهم، وأعلى شأنهم، ويكفي في بيان شرفهم وعظم مسؤوليتهم وأهمية دورهم ما وصفهم الله به في مواضع من كتابه بالخشية والرفعة، والتي جعلها الله من أخص صفاتهم كما في قوله تعالى: إِنَّمَا يخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَماءُ (فاطر، 28)، وما خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم من كونهم ورثة الأنبياء، فحيثما وقعت الفتن واختلطت الأمور احتاج الناس إلى المصلح والقائد والعالم. فعلى عاتق الأطر التربوية الكرام اليوم، يقع عبء تحمل مسؤولية التعليم عن بعد، فإن كان الأستاذ يبذل في العادة من وقته ساعات من نهار، فعليه في ظل حالة الطوارئ أن يبذل أكثر، لأن الحاجة إليه أضحت ملحة، كيف لا وهو الوسيط الوحيد بين المعرفة والمتعلمين، ولا خلاص من الجهل والأمية إلا بحضوره، فمهمته تشريف قبل أن تكون تكليفا، فهو المربي والمعلم، والصاحب والمؤدب.
فلا تقدم ولا تطور تعليمي، ولا رقي حضاري، سواء في ظل حالة الطوارئ أو في غيرها، إلا ببذل العامة وأهل العلم، بذل الوقت والجهد والمال، والغاية الإسهام في نهضة العلم والتعليم، والرفع من جودة التعلم. كما يرجى أخذ تضحيات هيئة التدريس مأخذ الجد، وذلك بإشراكها في التخطيط والبرمجة عوض وضعها في الهامش.
إنه بقدر أهمية الأساتذة والحاجة إليهم، يتبين خطر غياب دورهم وإشراكهم، فالثغرة التي هم عليها لا يسدها غيرهم.
الشكر موصول لكل من ساهم في إنجاح هذه العملية مع التلاميذ والطلبة، ولم يتخل عنهم في هذه المحنة وهذه الظرفية الاستثنائية، وحافظ على وصال الود معهم.
الهوامش:
(1) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق محمد تامر، ط1، 2003، رقم الحديث: 7141، 3/390.
(2) ياسين، عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1994، ص: 140.
(3) نفسه. ص: 139.
(4) أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، تحقيق شعيب الأرنوط ومحمد كامل قربللي، الرسالة العالمية، رقم الحديث: 3658.
(5) ياسين، عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، م. س، ص: 141.