وهاهو الليل يخيم مسدلا أستاره على كل من بالقبيلة، وها هو الهدوء يعم المكان ولا أحد في الطرقات إلا القلة القليل من رجال قريش من يتسامرون الكؤوس في سهراتهم المعتادة، أو من له حاجة عند آخر يقضيها في ستر الليل قبل أن يكشفه النهار…لكن لا وجود لأي امرأة ،إلا راقصات قريش في الخمارات يشاركن الرجال أجواءهم العبثية الفاسدة…وسط كل هذا، هناك بين الطرقات الهادئة صوت أنفاس تلهث و خطوات تتسارع…ما هذا امرأة في أزقة قريش في جنح الليل..لا ليست امرأة بل فتاة شابة صغيرة تسرع الخطى مهرولة خارج المدينة بسرعة قبل أن يكشفها أحد…يا ترى ما الذي أخرج هذه الصبية في هذا الوقت المتأخر من الليل؟!! ما الخطب؟!! و أي شجاعة هذه و أي تمرد على عادات قريش!!! ..تستمر الخطوات في التسارع، تخرج من القبيلة وتشق الصحراء بخطواتها الثابتة، ويزاح خمار الليل ليقبل الصبح كاشفا عن جلل فعلها، تستمر في السير مراقبة خلفها هل من قادم ليردها إلى قريشها في حين تتحول خطواتها المتسارعة إلى جري: مما هي هاربة يا ترى و إلى أين هي ذاهبة؟ ما هذا الخطب الجلل الذي جعلها تهرب …فجأة…يوقفها رجل في قلب الصحراء : ﺃﻳﻦ ﺗﺮﻳﺪﻳﻦ؟ تستجمع أنفاسها و بمنتهى الشجاعة تسأله : ﻣﺎﻣﺴﺄﻟﺘﻚ ﻭﻣﻦ ﺃﻧﺖ؟
فأجاب : ﺭﺟﻞ ﻣﻦ ﺧﺰﺍﻋﺔ. هنا اطمأنت و أجابت : ﺇﻧﻲ ﺍﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ، ﻭﺇﻧﻲ ﺃﺭﻳﺪ ﺍﻟﻠﺤﻮﻕ ﺑﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ – ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ .
نعم يا سادة إنها الشابة القرشية أم كلثوم بنت عقبة، تلك الفتاة التي حرك أحوالها حب الله و رسوله و هاجت مهجتها فاختارت أن تتمرد على كل عادة قرشية بائسة أن تهرب في جنح الليل من أبيها الذي كان يلقب بأبي الكفر وأن تخرج من كنف إخوتها، ولاية لله و رسوله…أي إيمان هذا وقر في القلب فحرك مكامنه و انتفض بها لتشق الصحراء سيرا لا تدري أين الوجهة، لكن قلبها النابض بحب رسول الله كان دليلها…
قبل مدة من إقدامها على الهجرة لله ورسوله ﺃﻋﺪﺕ ﻋﺪﺗﻬﺎ ﻣﻨﺬ ﺃﺧﺬﺕ ﻗﺮﺍﺭﺍﻫﺎ، ﻓﺒﺪﺃﺕ ﻓﻲ ﺧﻄﺔ ﺇﺧﻔﺎﺀ ﺃﻣﺮ ﻫﺠﺮﺗﻬﺎ، ﺣﻴﺚ ﻋﻠﻤﺖ ﺃﻥ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻣﻦ ﻣﻜﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻗﺪ ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻨﻬﺎ ﺧﻤﺴﺔ ﺃﻳﺎﻡ، ﻓﺒﺎﺗﺖ ﺗﺬﻫﺐ ﺇﻟﻰﺍﻟﺒﺎﺩﻳﺔ ﻋﻨﺪ ﺃﻫﻠﻬﺎ ﻓﺘﻘﻴﻢ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻳﺎﻡ ﺃﻭ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺛﻢ ﺗﺮﺟﻊ ﻣﻜﺔ، ﺣﺘﻰ ﺗﻌﻮّﺩ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﻫﻠﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻭﻟﻤﺎ ﺍﻃﻤﺄﻧﺖ ﻋﺰﻣﺖ ﻋﺰﻣﻬﺎ …حنكة في التخطيط لا يوازيها حنكة وإعداد للعدة وذكاء في الترتيب وفي اختيار الوقت و الزمان…
حين قابلت الرجل وسألها لم تبادر بالجواب بل سألته –ما مسألتك و من أنت- جمعت هنا بين الحنكة والحذر وحين علمت أنه من بني خزاعة اطمأنت له فأخبرته بمسألتها…نعم لقد كانت تعرف مسبقا أن قبيلة بني خزاعة دخلت في عهد رسول الله، إنها الشابة المحنكة القوية العالمة بأخبار السياسة المتتبعة للشأن العام.
إنها المؤمنة القانتة التي نزلت فيها الآية الكريمة حين أتى أهلها لرسول الله من أجل إرجاعها وفاء بإحدى بنود صلح الحديبية والذي يقضي بأن لا يأتي أحد من بني قريش، وإن كان على دين الاسلام، إلا رده رسول الله إليهم…
فأنزل فيها العلي القدوس من فوق سابع سمائه آيته الكريمة : ﻳَﺎ ﺃَﻳُّﻬَﺎ ﺍﻟَّﺬِﻳﻦَ ﺁﻣَﻨُﻮﺍ ﺇِﺫَﺍ ﺟَﺎﺀَﻛُﻢْ ﺍﻟْﻤُﺆْﻣِﻨَﺎﺕُ ﻣُﻬَﺎﺟِﺮَﺍﺕٍ ﻓَﺎﻣْﺘَﺤِﻨُﻮﻫُﻦَّ ﺍﻟﻠَّﻪُ ﺃَﻋْﻠَﻢُ ﺑِﺈِﻳﻤَﺎﻧِﻬِﻦَّﻓَﺈِﻥْ ﻋَﻠِﻤْﺘُﻤُﻮﻫُﻦَّ ﻣُﺆْﻣِﻨَﺎﺕٍ ﻓَﻼ ﺗَﺮْﺟِﻌُﻮﻫُﻦَّ ﺇِﻟَﻰ ﺍﻟْﻜُﻔَّﺎﺭِ ﻻ ﻫُﻦَّ ﺣِﻞٌّ ﻟَﻬُﻢْ ﻭَﻻ ﻫُﻢْ ﻳَﺤِﻠُّﻮﻥَ ﻟَﻬُﻦَّ ﻭَﺁﺗُﻮﻫُﻢْ ﻣَﺎ ﺃَﻧﻔَﻘُﻮﺍ ﻭَﻻ ﺟُﻨَﺎﺡَ ﻋَﻠَﻴْﻜُﻢْ ﺃَﻥْ ﺗَﻨﻜِﺤُﻮﻫُﻦَّ ﺇِﺫَﺍ ﺁﺗَﻴْﺘُﻤُﻮﻫُﻦَّ ﺃُﺟُﻮﺭَﻫُﻦَّ ﻭَﻻ ﺗُﻤْﺴِﻜُﻮﺍ ﺑِﻌِﺼَﻢِ ﺍﻟْﻜَﻮَﺍﻓِﺮِ ﻭَﺍﺳْﺄَﻟُﻮﺍ ﻣَﺎ ﺃَﻧﻔَﻘْﺘُﻢْ ﻭَﻟْﻴَﺴْﺄَﻟُﻮﺍ ﻣَﺎ ﺃَﻧﻔَﻘُﻮﺍ ﺫَﻟِﻜُﻢْ ﺣُﻜْﻢُ ﺍﻟﻠَّﻪِ ﻳَﺤْﻜُﻢُ ﺑَﻴْﻨَﻜُﻢْ ﻭَﺍﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠِﻴﻢٌ ﺣَﻜِﻴﻢٌ. سورة الممتحنة آية 10. لتكون فتحا لها و لمن جاء بعدها من المهاجرات.
إنها همة المومنة القانتة التي اختارت الله ورسوله فكانت ولايتها لهما وللمومنين فتحا ربانيا شمل كل ذي همة عالية أتى بعدها…إنها القوية الشجاعة بالله تعالى، إنها المحنكة صاحبة العقل المخطط المدبر العالمة بأخبار السياسية.
إنها ساحرتي القرشية…
فأين نحن من أم كلثوم يا ترى؟
ساحرتي قرشية
نشر بتاريخ
نشر بتاريخ