يقول الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ صدق الله العظيم 1 .
دلالة من الله عز وجل لعباده المؤمنين على تجارة لا خسارة فيها ولا بوار والربح فيها مضمون، دلالة على أن يجاهدوا في سبيله بالمال والنفس وأن يكونوا أنصارا له عز وجل لا لغيره، دعوة لمن استجاب لها فوز في الدنيا والآخرة، سوق لا إكراه فيها ولا إجبار، قاعدتها المشيئة والرغبة الحرّة، دعوة لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ صدق الله العظيم 2 .
ونحن نعيش هذا الشهر الكريم، أفضل مواسم الاتجار مع الله عز وجل، حيث الأجور مضاعفة، وإجابة الدعوة مضمونة، شهر الجهاد، جهاد النفس لتقبل على الله عز وجل لتنال المغفرة وتفوز بجنات تجري من تحتها الأنهار، وجهاد العدو حيث قاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أعظم غزوات الفتح ومنها خصوصا غزوة بدر، وهو شهر الجهاد بالمال بذلا وعطاءً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، ليجتمع في هذا الشهر العظيم جهاد النفس والجهاد بالنفس والجهاد بالمال، والكل يجمعه البذل والعطاء، ذلك شأن التجارة مع الله عز وجل بذل وجهد وعطاء.
وقد قدّم الله عز وجل الجهاد بالمال في الآية أعلاه لما جبلت عليه النفس من شحّ وبخل وطمع يدفعها إلى أخذ ما ليس لها والاستئثار والاستحواذ على كل شيء ولا يثنيها عن ذلك إلا الموت حقا أو تذكّره وردا، تذكّرا يربّي فيها الورع والتقوى.
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عندما يدخل السوق: لا يتّجر في سوقنا إلا من تفقّه، وإلا أكل الربا) 3 وقد عيّن سيدنا عمر رضي الله عنه أكل الربا لخطورته باعتباره حربا مع الله ورسوله والخسارة فيها حالّة لا محالة.
فسيدنا عمر رضي الله حين قال ذلك لم يكن يقصد فقط معرفة الضوابط الفقهية والإلمام بالقواعد الشرعية الخاصة بالمعاملات التجارية، وإنما القصد الأساسي من ذلك فقه القلوب من ورع وتقوى الله عز وجل في السر والعلن وبدون ذلك، فما عسى تنفع المعرفة العقلية لتلك الضوابط والقواعد الشرعية؟
وعلى النقيض من ذلك وجدت سوق المخزن؛ سوق غدّار تموج بموازينه الشرعية والقانونية والاستبدادية والإفسادية والترغيب والترهيب….
سوق محكم الأبواب، لا مشيئة فيه إلا مشيئته، سوق محكوم بقوانينه الظاهر منها والباطن والعقود فيه عقود إذعان لا عقود خيار، ولا مجال فيه للّعب والمناورة وفقا لمشيئتك وخطتك وأهدافك، وله عدة أبواب أهمها بابان: الباب الانتخابي والباب الديني ومؤدى كلاهما واحد: فالداخل من باب الانتخابات يبدأ بالحملات الانتخابية بكثرة الخطب والبرامج والوعود… وبعد أداء اليمين وتوزيع المناصب وتذوق عالي الأجور وسعة القصور والتعويضات والامتيازات… وكل ما يصور الربح قنطارا وما يجعل إرادة الإنسان تنساق وتنساب في مجرى نسق المخزن وتصبّ في بركته الراكدة حيث التماسيح والعفاريت، وتجعله ينسى أو يتناسى الخطب والبرامج والوعود ويغفل عن الوعيد وضيق القبور، ويلجأ إلى التّذرّع بالواقع والظروف الطبيعية والإكراهات المحلية والإقليمية والدولية، لتبرير نقض الوعود وهزالة المردود…
وبعد انتهاء “مدة الصلاحية” يدرك أن ذلك كان لعبا ولهوا وزينة وتفاخرا وتكاثرا في الأموال وسعيا للجاه، وأن التاريخ النضالي ضاع وانفضّ من حوله الجمع وولاه والمخزن الدّبر فيبدأ يحسب كل صيحة عليه. ولا داعي لسرد التجارب فمنها ما مضى بالأمس القريب ومنها ما نعايشه.
أما الباب الديني فقد جعل المخزن الدين حقلا خاصا به فبدأ تنظيمه بالدستور حيث يعتبر الدستور المغربي أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة وأن النظام فيه يقوم على مؤسسة إمارة المؤمنين – هناك دول إسلامية أخرى أيضا تدعي أنها قائمة على نفس القواعد – ويعتبر المخزن نفسه صاحب الحق الوحيد في التصرف في “الحقل الديني” فيزرع فيه ما شاء ويحرثه متى وكيف وبما شاء ويقتلع من الحقل ما لا يرضيه ولا يناسبه .
ولذلك سن مجموعة من القوانين فيما سماه “إعادة هيكلة الحقل الديني” لضمان ما سماه “الأمن الروحي” للمواطن؟ والذي لا يضمن فيه حقيقة الأمر إلا استمرار وجوده؟
والطاغي على هذه القوانين أنها تجعل أغلب العاملين في “حقل المخزن الديني” قاب قوسين من العزل أو الإعفاء من المهام لكون وضعهم القانوني ليس نظاميا كالموظفين وإنما في غالب الأحيان يدخلون للعمل في الحقل الديني بمقتضى عقود تبرمها وزارة الأوقاف معهم بعض بنودها يحيل على مدونة الشغل (نموذج: القيّمون الدينيون – المؤذنون – الأئمة..).
وطبعا فإن هذه الوضعية القانونية المتعمّدة الهشة تجعل العاملين في ظلها المحموم مسكونين بهاجس العزل والطرد من العمل مما يجعلهم تحت رحمة المخزن لا يرون إلا ما يرى ولا يسلكون إلا مسالكه فلا ينكرون منكرا فعله أو فعله غيره وأقرّه بالرعاية أو الصمت عنه وما ينتشر في البلاد من مهرجانات الميوعة والفساد والإفساد الممنهج لنموذج من ذلك، وقد لعن الذين كفروا من بني إسرائيل من قبل أنبيائهم لأنهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ 4 .
كما أن النصوص القانونية المؤطرة للحقل الديني إضافة إلى النصوص الدستورية المتحدثة عن إمارة المؤمنين هدفها لجم كل معارض لفهم وتصور المخزن للدين وممارسته، باعتباره حقلا خاصا به وله وحده حق التصور والتصرف والتوجيه، وبالتالي فكل من سعى سعيا خارج تصوره وممارسته فهو مغضوب عليه، ولو كان ما فعله من صميم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحيائها، فإن اعتكف أخرج قسرا من المساجد وإن اجتمع على الله في بيت من البيوت اعتقل بدعوى عقد اجتماعات عمومية بدون ترخيص ومن سعى إلى الاتجار مع الله وفقا لقواعد خارج سوق المخزن الخاسرة المفلسة، قواعد وأسس التقوى والورع، إذا رأى منكرا أنكره كيف ما كان مصدره ولا يخشى في ذلك لومة لائم. وهؤلاء يسعى المخزن جاهدا لردعهم وإدخالهم إلى سوقه؛ سوق الكساد والفساد سعيا منه لسرقة رأسمالهم الممسوك بحبل الله المتين.
سوق المخزن قائم على التسلط والاستبداد والفساد والإفساد والإذعان والإذلال والإخضاع، قائم على السلب والنهب والاستئثار بكل خيرات البلاد، قائم على مسخ الهوية الإسلامية للأمة بنشر الميوعة والفساد عبر مختلف وسائل البث والاتصال والمهرجانات الهادرة للأموال العامة… قائم على تخريب التعليم والصحة وترسيخ مشهد سياسي مبتذل… سوق يستحيل الجمع بينها وبين الاتجار مع الله عز وجل.