حسب قواميس اللغة، تطلق لفظة بيت على معان ثلاثة: بيت الشِّعْر وهو كلام موزون مؤلَّف من شطرين، صدْر وعَجُز، وبيت هو مسكن من الحجارة وقد يكون من الوبر كما كان سابقا، أومن المعادن ومشتقاتها كما هو الأمر حاليا، وبيت بمعنى امرأة الرَّجل وعياله. ولن يكون كلامي في هذه الحلقة إلا عن البيتين الأخيرين، بيت الحجارة وبيت الأهل والعيال. وسأبدأ الحديث، ودائما برفقة الشهود، عن بيت الحجارة الذي كان يسكنه بلال رحمه الله، فإن له على صغره وبساطته لشأنا.
1- بيت من الحجارة ليس كباقي البيوت
أول شاهد نستمع إليه يحكي لنا عن تميز هذا البيت، طفل عاش تحت سقفه وبين جدرانه يقص علينا، وقد بلغ مبلغ الرجال، ما علق بذاكرته حوله. يقول عبد الحميد بن بلال:
– بيت يستقبل زوارا كثيرين
“إنسان يخاف الله، كل أوقاته في طاعة الله تعالى. كان يحرص أن يكون دائما في المسجد. كما كان دائما يلبي طلبات الناس ويمد يد المساعدة إليهم. في صغري كنت ألاحظ أصدقاءه وهم كُثُر، يأتون عنده في بيتنا، والوالدة أولى من يحكي لكم عن هذا فهي عاشت معه هذا وعايشته، أنا أحكي الذي ما زلت أذكره وعلق بذاكرتي وأنا طفل صغير: فالوالد كان يأتي عنده أناس كثيرون إخوان متعددون، يقومون بتلاوة القرآن في المنزل ويقومون بكثير من الأعمال.
– بيت يحتضن اعتكافا مدته عشرة أيام
دلنا عبد الحميد على مصدر هام ليحكي لنا عن بيت بلال الذي كان وكما ذكر “يأتيه أناس كثيرون، إخوان متعددون”. فهيا بنا نسأل والدته لتفصل ما أجمله ولدها:
“سأحدثك لأوضح ما قاله عبد الحميد من زيارات الإخوان واستقبالنا إياهم عن زيارة خاصة، عن اعتكاف مدته 10 أيام احتضنه بيتنا الصغير.
– نعم سيدتي حدثينا، نريد أن نسمع منك حتى التفاصيل، فهي عندنا من صغار الأمور التي لا نحقرها. وكيف نحقرها وابن عباس رضي الله عنهما يقول: “الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره”.
“قرر الإخوان تنظيم اعتكاف في رمضان يدوم عشرة أيام. فعرض عليهم بلال يضيفهم عندنا بالبيت، فنستفيد كذلك نحن مع أولادنا (أربعة كانوا آنذاك) مع المعتكفين. أما كيف كنا نفعل، أولا كنا نعد طعام الإفطار نقدمه للمعتكفين. ونخرج للمسجد نصلي ثم نتجول قليلا في الأزقة المجاورة لنترك المجال للإخوة للذهاب للوضوء وليتحركوا قليلا بعد كل الوقت الذي يقضونه ماكثين في قاعة الجلوس وهم كثر. وبعد أن نقدر أنهم انتهوا من الوضوء والتحرك في مساحة البيت المحدودة، كنا نعود أنا وأخت تساعدني جزاها الله خيرا 1، نغسل الأواني ونتقاسم المهام. كان بلال يقول لنا اطبخوا البسيط من الطعام مرق أو حساء، وشاي وخبز. لكننا كنا نتطوع وننفق في سبيل الله من عندنا 2، فنصنع الفطائر (المسمن والبطبوط) وتتطوع كذلك بعض الأخوات فيطبخن أطعمة يُحْضِرْنَها. كما كان بعض الإخوان يساهمون ويُحْضِرونَ في الليل العشاء مطهيا.
“وأخبركم، وأشهد الله على ذلك، أني أمضيت شهرا بعد الاعتكاف وصوت أحد الإخوان الذي كان يؤم بالمعتكفين صلاة التراويح لم يفارق أذني وكأني أسمعه مباشرة. فيا لروعة قرآن ذلك الاعتكاف! ويا لحسن تلك الأحاديث! وقد كانوا يكتبونها ويعلقونها على الجدران. لم تَكُنْ تُحِسُّ بضيق المكان ولا بازدحامه ولا تتأذى باختناق الهواء. كان الإخوان منهمكين بجدية في أعمالهم التربوية”.
وبعد الاستماع إلى شهادة السيدة زهرة، هيا بنا نسأل مشاركين في ذلك الاعتكاف، ليخبرونا عما علق بذاكرتهم حول ذلك الاعتكاف التاريخي وهو الأول من نوعه تشهده مدينة الدار البيضاء. نبدأ بك السي عبد الجبار، لك الكلمة، حدثنا:
“… وأقبل علينا رمضان سنة 1982، ففكرنا أن ننظم في شعبة حي الإدريسية اعتكافين، اعتكافا ببيت بلال رحمه الله واعتكافا ببيتي. لكن الأخ فؤاد محداد حفظه الله طلب مني -وما كان لمكانته عندي أن أرد له طلبا- أن أعيره بيتي لاحتضان لقاء دعوي، لا سيما وأنهم سيستقبلون ضيفين كريمين يفدان من مدينة فاس، الأخ منير الركراكي والأخ عبد الكريم العلمي بالإضافة إلى السي محمد بشيري.
فاجتمع كل معتكفي الشعبة عند السي بلال، وبيت السي بلال به غرفة نوم صغيرة جدا وقاعة جلوس طولها ثلاثة أمتار ونصف وعرضه لا يصل الثلاثة أمتار. وكان الباب مغلقا لأن من وراء الباب كانت زوجته السيدة زهرة وزوجتي تعدان لنا طعام الإفطار والسحور، وقد اعتكفتا معنا جزاهما الله خيرا. كما كانا ينظفان البيت.
“نعم ما زلت أذكر، وكلما أتذكر ذلك إلا وأتبسم متعجبا من معاناة البداية المادية وثمراتها القلبية، وقد كان -وأيم الله- لها ثمر. لقد كنا عندما نريد أن نخرج للوضوء نطرق الباب نستأذن، ونذهب إلى بيت الخلاء. وكيف كان بيت خلاء دار السي إبراهيم بلال؟!
كان تحت الدرج إذا لم تأخذ حِذْرَكَ تضرِبُ رأسك بسقفه. كثير من الإخوة كانوا يتحاكون عن صفعات، بل لكمات سقف المرحاض على أم رؤوسهم…
“هذا المعتكف حضره مجموعة من الإخوان الرجال العظام -أحسبهم كذلك ولا أزكي على الله أحدا- السي محمد بارشي والسي عبد اللطيف قديم والسي سعيد أمرير والسي أبو الصواب والسي مبارك الضغوغي. كنا في حدود العشرين فردا في تلك المساحة الضيقة جدا. ولم تكن للبيت إلا نافذة واحدة يدخل منها الهواء. ولكم أن تتصوروا كيف كانت حالة الأفرشة والأغطية وكيف كانت مائدة الإفطار؟
“وأما بنعمة برك فحدث”، الله تعالى أنعم على الجماعة ونسأله أن يزيدها من نعمه وفضله، الفسحة ومساحات البيوت المتسعة ما أكثرها اليوم إذا ما قارناها ببيت بلال وبيوت مرحلة النشأة، وغالبها لا يختلف كثيرا عن بيت بلال.. 3.
“وأتممنا الاعتكاف، ومن إخوتنا من كان يعاني آلام العمود الفقري (سِيَاتِيك) ومع ذلك صبر على ظروف الاعتكاف المادية وأكملنا جميعنا الاعتكاف، لم يغادره قبل ختمه منا أحد.
“السي بلال كان ينادي على زوجته باسمها “زهرة أَرِي أَرِي كُلْشِ” 4، مع قلة ما كان يملك! وهناك أمر لم أنتبه له إلا بعد مضي سنوات: بلال كان له خمسة أطفال صغار: عبد الحميد ويوسف وأسامة وصلاح والسي محمد أين كانوا ينامون؟ أفي المطبخ، أم مع النساء في غرفة نوم السي بلال؟ وكيف كانوا ينامون سبعتهم في تلك المساحة الضيقة؟ ومع ذلك لم نسمع نأمة احتجاج ولا نبرة تبرم، ولم نفطن لشيء من هذا، إلا بعد أن مرت الأيام وراجعنا في مخيلتنا كيف كانت تمر الأمور.
“لا إله إلا الله، فاللهم سامحنا وتجاوز عنا ما عاناه الأزواج والأولاد.
“لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهكذا مر أول اعتكاف نظم بمدينة الدار البيضاء واحتضنه هذا البيت المبارك”.
ومن عبد الجبار وهو -رعاه الله- ما يزال يحتفظ بذاكرة قوية، ننتقل إلى معتكِفٍ آخر أحمد أبو الصواب يقول لنا باختصار ما لا يزال عالقا بذاكرته حول ذلك الاعتكاف الرمضاني الأول بالدار البيضاء. يقول حفظه الله:
“أتذكر أول اعتكاف في أواخر سنة 1982 في الصيف. كان رمضان ونظمنا اعتكافا عند بلال في البيت.
وبيت السي بلال متواضع يتكون من غرفتين ومطبخ. شغلنا نحن المعتكفين غرفة وشغل أهله الغرفة الثانية.
“كان هذا أول اعتكاف ربما كنا حوالي أحد عشر معتكفا 5 لم أعد أذكر. وما زلت أذكر سبعة منهم بأسمائهم. كان بلال النقيب/الخادم في ذلك الرباط. يخدم الإخوان ويسير فقراته”.
ويضيف أبو الصواب وهو يتكلم عن هذا البيت الأرقمي فيقول:
“في هذا البيت كان رحمه الله يستقبل ويسير الجلسات الإيمانية التربوية التعليمية التي تخص أسرته الدعوية. كما كان يستقبل جلسات إخوة المنطقة التي يسكنها من لم تتوفر لهم أمكنة للاجتماع. وأذكر في هذا الصدد، أني كنت أعقد جلسات عنده في البيت، وكنت في تلك الساعة ما أزال عزبا. البيت مفتوح دائما ولو لم يكن في الدار. من يأتيه لحضور لقاء مبرمج به، يدفع الباب ويدخل بمجرد الاستئذان؛ حين يسمع صوت زوجته من غرفتها أو من المطبخ تجيب، دون أن تسأل من الطارق: “الباب مفتوح تفضل ادخل” فيدفع الباب ويلج غرفة اللقاء”.
2- بلال مع أهل بيته
بعد أن تكلمنا عن بيت بلال بما هو مسكن من حجارة، نتكلم في هذه الفقرة عن البيت بالمعنى الثاني، عن زوجه وعياله. ونبدأ بشهادة جار بلال يحدثنا عن بلال الأب وبلال الزوج. يقول الأستاذ حسن بوغا:
“على مستوى العلاقات الزوجية كان الرجل هينا لينا مبتسما فرحا مع زوجته وأبنائه الصغار. فإن كانت النفقة المادية محدودة، فالكلمة الطيبة وملاعبته أبناءه الصغار وإدخال السرور عليهم بالتودد والعناق والاحتضان الدائم كان التعويض عن قلة ذات اليد وضعف النفقة المادية.
“هذه السلوكيات الطيبة وهذه المعاملة الحسنة التي كان يمتاز بها سيدي بلال رحمة الله عليه، كنا نلاحظها ونستشعرها ونحن نحضر عنده الجلسات أو نقصده في الزيارات” 6.
وبعد الجار نسأل مولاة الدار، للا زهرة؛ حدثينا عن السي إبراهيم في البيت، كيف كانت معاملته في الدار مع الأولاد؟
“لم أسمع منه قط، مع طول العشرة كلمة “خايبة” 7. كان لطيفا مع أبنائه، يلعب معهم وكان يجتهد ليطبق -ما استطاع- جميع الأمور التي أمر بها الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، في معاملة الأبناء وفي العشرة الزوجية الطيبة؛ ورغم أننا “حنا لعيالت كنتقلقو بعض المرات” كان دأبه إذا رأى مني غضبا وفورة أن يقول لي: “استعيذي بالله من الشيطان الرجيم، سيري اذكري الله”، أو شيئا من هذا القبيل، ولا يقابل بتاتا غضبا بغضب! عجيب أمره لا ينفعل، وكثيرا عندما كنت أحكي له عن “شي حد دار فينا أو كال فينا” 8 إلا ويكون جوابه: “خليه، وسيري اذكري الله! سبحان الله لم يكن يغضب أو يقلق! وإذا ما غضب فإنه كان يكظم غيظه، يُسِرُّهُ في نفسه ولا يبديه. وكان يتحاشى أن يلاحظ الأولاد ما ابتلاه الله به من عوز، الله يرحمه، ولو أنه لا يملك الكثير فإنه كان يجتهد في التصرف بما قسم الله له من رزق ليستجيب لحاجياتهم وتلبية طلباتهم.
– مشاركته في مهنة أهله
“كلما رزقنا مولودا، وطيلة أيامه الأولى، يقول لي -إذا ما استيقظ باكيا- اعتني به أنت، غيري خرقه وعلَيَّ الباقي. فيذهب يحَضِّرُ الحليب للرضيع؛ كما كان ينوب عني في كل شيء، لأتفرغ لمولودي. “زعما صراحة عشرته طيبة رحمه الله مكاين بحالو” 9.
– وجبة “التردة”
“مرة لم يكن عندنا في البيت ما نسد به الرمق، ولو قطعة خبز طري، لم يكن عندنا في البيت أي شيء نطبخه، أي شيء! وجاع الأولاد. فخرج بلال يبحث عن حل… لعله يدبر الأمر…
وبعد مدة، ولما عاد خاوي الوفاض، وجدَنا، أنا والأطفال قد نمنا. فعمد إلى بقايا قطع الخبز “كارم”ا 10 فكسره قطعا صغيرة وأضاف عليه الملح والتوابل مع حبتي طماطم وجدهما منسيتين في المطبخ وأضاف الماء والزيت وأضرم الموقد. صنع ما نسميه “التردة”. وبعد تحضيرها جاء يوقظني والأولاد وهو ضاحك فرح مستبشر أن هيأ الله له ما نسد به الرمق”.
الحلقة القادمة: معاناة بلال من ارتفاع ضغطين ضغط المخزن وضغط الدم
[2] جهدا ومؤنا.
[3] للإشارة، فبيت عبد الجبار وكان كذلك يحتوي على غرفتين ومطبخ، لم يكن بدوره يخلو من اللقاءات كل يوم، وقد يستقبل في الآن الواحد أكثر من لقاء.
[4] أحضري كل شيء.
[5] أميل إلى التقدير العددي لعبد الجبار، أي ما دون العشرين، لكون المحضن جمع ما بين محضنين كانا مقررين في الأصل. ولم نكن نعقد قط رباط بخمسة أو ستة أشخاص حتى في بداية عمل الجماعة.
[6] من شهادة الأستاذ حسن بوغا ادلى بها مكتوبة في شهر ماي 2020.
[7] كلمة سوء.
[8] أساء إلينا بقول أو عمل.
[9] كان رحمه الله طيب المعشر ليس له مثيل.
[10] لخبز الجاف المتصلب.