رأينا في الحلقة السابقة، بل في كل حلقات هذه السلسلة المخصصة للتذكير ببلال في ذكرى وفاته الثلاثين، وقد رشحه سابقته وعطاؤه وقدمه في الدعوة ليكون من جيل رجالاتها المؤسسين، رأينا ووقفنا مليا مع عطاء هذا الرجل الدعوي وسعيه للمساهمة في إقامة المشروع الذي انتمى إليه وخدمة إخوانه الذين جمعته بهم الدعوة إلى الله والتحزب لله ورسوله والمؤمنين. ونتعرض في هذه الحلقة إلى ومضات ولُمَعٍ مما مَنَّ الله به على مُتَرْجَمِنَا إبراهيم بلال، وإن اقتديت بسيدنا عمر رضي الله عنه في تسييد بلال بن رباح، فقلت فيه سيدي إبراهيم بلال رحمه الله فلا تثريب علي 1. وفي هذه الحلقة فإني سأستدعي الشهود وهم عمدتي في هذه السلسلة، ليحدثونا عن بذل بلال ومساعدته الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض والسقيم وذا الحاجة، هؤلاء الذين كانوا لا ينقطع ذكرهم في وجدان الحبيب المصطفى والتذكير بهم في وصاياه ومنحهم الأولوية في معاملاته وقَسْمِهِ الأموال وفي بره وإحسانه.
– بيت بلال وجهة مقصودة
أبدأ بالانطباع الذي تركه بلال لدى فلذة كبده وقد خلَّفَه عند وفاته طفلا في بداية العقد الثاني من عمره. يقول ابنه عبد الحميد واصفا إياه: “إنسان يخاف الله، كل أوقاته في طاعة الله تعالى. كان يحرص أن يكون دائما في المسجد. كما كان دائما يلبي طلبات الناس ويمد يد المساعدة إليهم. المهم! في صغري كنت ألاحظ أصدقاءه وهم كثيرون، يأتون عنده في بيتنا، والوالدة أولى من يحكي لكم عن هذا فهي عاشت معه هذا وعايشته، أنا أحكي الذي ما زلت أذكره وعلق بذاكرتي وأنا طفل صغير، فالوالد كان يأتي عنده ويطرق باب بيته أناس كثيرون ….”.
– مواساة وخدمة وتهمم بأهالي المُبْتَلَيْن
أما رفيق بلال وشريكه في توسيع العمل وضبطه بالدار البيضاء وغيرها من المدن، الأستاذ أحمد أبو الصواب فيذكر:
“ومن مناقب السي بلال كذلك، المواساة. كان دائم الزيارات للإخوان المحتاجين. ففي فترة الاعتقالات كان يزور جميع أهالي المعتقلين. وكان يخصص -صحبة أخوين- يوما في الأسبوع ليصحب أبناء الإخوان المعتقلين للحديقة، ينظمون لهم بها صبحية مفحمة بالأنشطة الترفيهية، ينوبون عن آبائهم المغيبين في سجون الظلم والطغيان. ثم يرافقون كل طفل أو طفلة إلى منزله. وما هذا إلا غيض من فيض من الأعمال التي كان يقوم بها تفقدا للعمل وقياما بواجب المواساة ومتابعة للبرامج ووقوفا على حسن تنفيذها.
كان رحمه الله يتمتع بحركية تثير الإعجاب، فقد رافقته لحضور رباطات في مدن أخرى، وصاحبته في أسفار قصد الاتصال بإخوة وفتح العمل في مناطق عذراء، وما إلى ذلك مما يقتضيه توسيع العمل الدعوي أو تتبعه. ودائما ترى في سيدي إبراهيم ذلك الرجل الصبور الخدوم. لقد كنت أصغر منه سنا، ومع ذلك تجده سباقا إلى خدمتي، يسبقني إلى كل عمل، تلمس فيه الصدق ومحبته واحترامه الشديدين للمومنين.
– العمل الاجتماعي الخيري التطوعي
تحكي السيدة زهرة عن زوجها فتقول: “كان بلال يسعى في تزويج العازبات من الأخوات ويبحث لهن عن أكفائهن من الإخوان، أحصي له في هذا الشأن تزويج سبعة أو ثمانية أخوات. وكان يقوم بإعذار (ختان) الأطفال يجعلها مفاجأة سارة لآبائهم وأمهاتهم، سبحان الله، “زعم -لا إله إلا الله- وخا معندوش” 2.
وأما ملابسه، فعلى قلتها وعدم وفرتها أو تنوعها، فإنه إن سئل منها شيئا يختار أجودها ليعطيها السائل. ولما ألاحظ عليه قائلة إنها أجود ما تملك! يجيبني: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ 3، وهل هي خسارة أن نهديها لله عز وجل. كان رحمه الله “رجل فشكل!” (رجلا متميزا).
– بلال وسكان الحي:
“سكان الحي بالإجماع يحترمونه نساء ورجالا وشبابا، لأنهم كانوا يحظون منه بالتقدير فيبادلونه نفس المعاملة ونفس التقدير. لقد كان يشارك في عيادة المرضى والوقوف بجانب الأسر التي انتزع الموت أحد أعضائها وكان يتابع شباب الحي على مستوى دراستهم ونتائجهم السنوية النهائية. وأما رواد المسجد فقد كان في معاملتهم “الجواد يجري ولا يجرى معه”، فقد كنت أصلي معه في المسجد القريب من سكناه، وكنت ألاحظ حرص المصلين على السلام عليه سلاما حارا خاصة إذا غاب عنهم بعضة أيام، ويبادلهم هو نفس الشعور مع الابتسامة وطرح السؤال الاجتماعي “كيف حالك وحال أفراد أسرتك”؟ أما علاقته بإمام المسجد ومؤذنه فكانت علاقة احترام وتقدير من جانبه نحوهما ومن قبلهما تجاهه” 4.
– بلال مع الشيبة والشباب
ذكرنا في أول ما كتبنا، في الحلقة التعريفية بهذه السلسلة، مقتطفا من شهادة السيدة زهرة زوج بلال يوضح علاقته بصنفين من الجيران الشيبة والشباب، ولا بأس أن نستمع إلى كلامها كاملا غير مجذوذ في هذه الحلقة. تقول حفظها الله: “… كما كان رحمه الله إذا خرجنا من البيت من أجل التبضع أو لغرض ما، وصادف في طريق العودة مجموعة من الرجال المتقاعدين متحلقين يلعبون لعبة “الداما” 5 أو لعبة الأوراق (الكارطا) يستأذنني في لحاقه بهم فيجلس وسطهم ويكلمهم ويعظهم ويقول لهم سادتي لقد كبرتم والعمر قصير وهل يستقيم أن تضيعوه في اللهو ومضيعة الوقت؟ لم يعد يفصلكم عن الأذان إلا وقت يسير، أليس من الأفضل أن تلتحقوا ببيوتكم لتتوضؤوا وتبكروا إلى المسجد، فسيدي النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن العبد لا يزال في الصلاة ما دام ينتظر الصلاة، وأن من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله رجل قلبه معلق بالمساجد، أو يقول لهم كلامَ وعظٍ وتذكير من هذا القبيل. سبحان الله لم يكونوا يتبرمون من كلامه لأنه يلقيه إليهم في غاية اللطف والتودد وكثيرا ما كان يمازحهم ويدخل السرور عليهم”.
– ابراهيم بلال رجل الخدمة:
شاهد آخر لم أقدمه مع الشهود في الحلقة التعريفية، لأنه لم يطلعني على شهادته وعلاقته بالرجل المترجم له إلا بعد شروعنا في نشر الحلقات الأولى. وقد كان يسكن قريبا من بلال وكانت زيارتهما ولقاءاتهما لبعض كثيرة. إنه الأستاذ أحمد أيت عمي. لنستمع إلى شهادته في موضوع خدمة بلال الآخرين وتفانيه في ذلك. يقول حفظه الله:
“زرته يوما في بيته بعد أن رحلت عن الدار البيضاء إلى مدينة الجديدة للعمل بها والإقامة. فأخبرني ابنه وهو يستقبلني بأنه مريض. وبعد السلام عليه سألني هل من خدمة؟ فأشفقت عليه وقلت له لا عليك، فأقسم علي أن أخبره، فقلت له قصدتك وكنت أريد منك أن تستقبل تلاميذ من مدينة الجديدة في محطة الحافلات يوم السبت القابل وتُلحقَهم بمكان لقاء معد لاحتضانهم؛ لكنك الآن مريض، وسأتدبر أمري. فألح علي أن يتكلف هو باستقبالهم ومرافقتهم لحضور اللقاء. وكان أن توفي رحمه الله قبل يوم السبت”.
– رجل العفة والإيثار:
ويتابع السي أحمد أيت عمي شهادته في الفقيد فيقول عن عفته وإيثارِه غيرَه على نفسه وعياله: “في يوم من أيام الصيف وأنا ببيته، أخذ أبناؤه يشاغبون ويلعبون داخل البيت ويحدثون ضجيجا مما شوش علينا حتى لم نعد نتبين ونسمع ما يقوله المتحدث منا، فقلت له: “لا بأس من تركهم يلعبون خارج البيت، حتى ننتهي من المذاكرة فيما جئتك في أمره”. فأجابني رحمه الله “نعالهم تمزقت وأنتظر آخر الشهر لتسلم راتبي فأشتري لهم نعالا جديدة”. سبحان الله! ثمن زوج من النعال آنذاك حوالي 10 دراهم. هذا مع أنه كان عضوا في اللجنة الاجتماعية وكان باستمرار يجمع المساعدات ويوزعها على المحتاجين، وما خطر بباله يوما أن له فيها حقا أو نصيبا”.
في الحلقة القادمة: أخلاق وخصال تذكر بالرعيل الأول من الرجال
[2] هذا مع ضعف ذات اليد وقلة الموارد المادية.
[3] آل عمران الآية 92.
[4] الأستاذ حسن بوغا في شهادته المدلى بها في رمضان 1441.
[5] الداما، والمغاربة ينطقون دالها بالتفخيم فيقولون ضاما، اللعبة المعروفة. يزاولها بكثرة المتقاعدون وكبار السن.