هذا ربيعٌ قد أتاك مبشرا
بقدوم مولد خير من وطىءَ الثرى
لا شك فيه أنه في فضله
بين الشهور كمثل أحمد في الورى
(ابن الصباغ الجذامي)
لا ينكر الاحتفال بمولده الشريف إلا من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر وجفاء وجحود للعروة الوثقى والنعمة العظمى مولانا محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا (النحل، 83)، قال السدي: النعمة هي محمد صلى الله عليه وسلم.
والبعض وجد في نفسه حرجا وحشمة واستحياء أن يتخذ من يوم مولده الشريف عيدا عظيما يعبر فيه عما يعتلج في صدره من الفرح والسرور والابتهاج والحبور بمولد سيد الخلق، ويعتبره فقط ذكرى عابرة مضت. ومفهوم الذكرى عند أهل اللغة من ذكر الأمر ذكرا وذكرى وتذكارا، بمعنى استحضره جمع في ذهنهم بعد مرور على حدوثه ووجدوا في سمرهم مجالا لتذاكره وإعادة الحديث عنه. أما العيد؛ فأصل الكلمة من عاد يعود، قال ابن الأعرابي: سمي العيد عيدا لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد (لسان العرب).
العيد ليس ذكريات مضت بل العيد يعود كل سنة بالفرح والاحتفال والابتهاج والسرور والحبور، ونلخصه في كلمة جامعة شاملة؛ إنه يوم عرس.
قال العاشق المحب المشتاق لجنابه الشريف:
كل له عرس في يوم مولد حبيبه
ونحن في يوم مولد أحمد لنا عرس
من هنا وجب على المحبين المشتاقين لمولانا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتخذوا من يوم مولده الشريف عرسا لإظهار المحبة والفرح والسرور والابتهاج والحبور والاحتفال بهذه الرحمة المهداة التي أهداها لنا الله عز وجل الرحمان الرحيم ومنّ بها علينا سبحانه، وشكرا على هذه النعمة العظمى المسداة التي أنعم الله علينا بها لما بعث فينا حبيبه وخليله محمدا صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى، 11)، قال مجاهد: النبوة، وقال الله عز وجل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (يونس، 58)، قال أبو العباس المرسي رحمه الله كلمة عميقة من درره النفيسة: “الأنبياء إلى أممهم عطية ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية، وفرق بين العطية والهدية؛ لأن العطية للمحتاجين والهدية للمحبوبين، قال رسول الله صلى عليه وسلم (إنما أنا رحمة مهداة) رواه الحاكم والدارمي”. ومن ثم كان يوم مولده الشريف عيدا وعرسا لإظهار محبته والاحتفال والفرح بهذه الرحمة الربانية المهداة عليه الصلاة والسلام.
رأى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في المنام أبا لهب بعد مماته فسأله عن حاله فقال له: “في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين بإعتاقي ثويبة – الأسلمية جاريته – عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم”. إذا كان هذا حال أبي لهب المشرك الكافر الذي لا ينفعه عمله الصالح مع كفره يخفف عنه العذاب فقط إكراما له لفرحه بولادة مولانا محمد صلى الله عليه وسلم، فما بال المحبين المشتاقين لجنابه الشريف الذين يتخذون يوم مولده عيدا عظيما وعرسا كبيرا لإظهار محبته والفرح به عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي في نظمه البديع:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه
يثبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائما
يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره
بأحمد مسرورا وبات موحدا
هذا الفرح وهذا الحب هو الذي دفع المحبين لجنابه الشريف لاتخاذ يوم مولده صلى الله عليه وسلم عيدا سَنيا يضاهي عيدي الفطر والأضحى في الفرح والسرور ويخرجون في مواكب للاحتفال وإظهار الابتهاج.
يقول الولهان المحب المشتاق لأحمد عليه الصلاة والسلام
المسلمون ثلاثة أعيادهم
الفطر والأضحى وعيد المولد
فإذا انقضت أفراحهم فسرورهم
لا ينقضي أبدا بحب محمد
ذكر العالم الرباني الجليل ابن عباد الرندي رحمه الله تعالى أنه خرج في يوم مولد الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام إلى خارج البلاد، فوجد الولي الصالح الحاج أحمد ابن عاشر رحمه الله تعالى مع جماعة من أصحابه، فاستدعوه لأكل الطعام، قال: فاعتذرت لأني صائم، فنظر إلي الشيخ نظرة منكرة وقال لي: “إن هذا اليوم يوم فرح وسرور فلا يستقيم فيه الصيام لأنه يوم عيد”.
بنو إسرائيل أنزل الله عز وجل عليهم مائدة من السماء فاتخذوا من ذلك اليوم عيدا يحتفلون به، قال الله عز وجل: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا (المائدة، 114). ونحن بعث الله عز وجل لنا من أنفسنا مولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وأرسله رحمة للعوالم كلها، قال الله عز وجل: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة، 128)، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء، 107).
ولما قدم مولانا محمد صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة وجد بني إسرائيل يتخذون من اليوم الذي أنقذهم الله عز وجل من بطش فرعون وهامان وجنودهما عيدا لهم يحتفلون به، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بموسى منهم، وأقرهم على ذلك واحتفل به.
ونحن أنقذنا مولانا محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وأخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فالأحرى بنا – نحن المحبين المشتاقين لجنابه الشريف عليه الصلاة والسلام – أن نتخذ من يوم مولده عيدا عظيما.
بل إن الابتهاج بمولده دفع العديد من العلماء والعارفين إلى تفضيل ليلة ميلاده على ليلة القدر، من ذلك أن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق آثر ليلة المولد على ليلة القدر من إحدى وعشرين وجها في رسالته (جنا الجنتين في فضل الليلتين).
قال المحب العاشق لجنابه الشريف عليه الصلاة والسلام ابن الصباغ الجذامي:
وقوفا على الأقدام في حق سيد
تعظمه الأملاك والجن والإنس
وقال في قصيدة أخرى:
لولاه ما طلعت بدور أهلة
كلا ولا صبحٌ أضاء وأسفرا