لطالما في دائرة الجوار القريب أو البعيد، نجد شخصا أو بيتا يمشي على نور وهدى من ربه؛ هو محور تلك العلاقات الإنسانية الراقية، الذي يهدف إلى لم شتات العائلة، وجمع شمل جيران ذوي القربى، من يمد يد العون للجميع، ويقرب وجهات النظر، ويحول دون أن يحصل في محيطه الاجتماعي سوء فهم أو نحوه، ويسعى جاهدا لإصلاح ذات البين، ويتفانى في خدمة الآخرين.
أي نجم هذا! ما شأنه وما سيرته؟ وفي أي مجال ذاع صيته بين الناس؟ اشتهر هذا النجم المنير في وسطه في مجال تأليف القلوب، ومعرفته بالمشاعر الإنسانية وتذبذبها وتقلبها ما بين الخير والشر، وأن الإنسان ما بين إقدام وإدبار، والنفس البشرية لا تستقر على حال، وما يؤسس لدوام العلاقات هو التقبل والصبر الجميل، لأن الإنسان قد يمر في مرحلة ما من عمره، أو لظروف اجتماعية قاهرة، بأزمات نفسية تستدعي تكاثف جهود المحيطين به لإخراجه من مأزقه، وغياهب عقده، والعمل على مساعدته في حال ضعفه؛ وقد يبدر منه عنف أو جهل يؤدي لقطع العلاقة بصورة دائمة، إنه الفهم العميق للآخر الذي يجاور أو يقارب.
استطاع ذاك النجم المنير في وسطه الاجتماعي، وفي دائرة الجوار أن يجعل الكل يبحث عنه، ويسأل عنه إن استعصى أمر عليه، أو رغب في مشورة من يمشي في خدمة الناس، ويقضي حوائجهم بسرية تامة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهذا هو الأهم بالنسبة لهم؛ الثقة والسرية.
إنه نجم من نوع خاص، اقتبس قبسا من سير النبوة، ومنها استمد فلسفته الخاصة في الحياة، وصاغ رؤى حول الجانب المنبوذ من العلاقات من زوايا تختلف عن المعتاد، تتسم ببعد نظر، وتهدف لبناء العلاقة في أسمى معانيها، عبر مجموعة من المعايير القيمية من ضمنها؛ أن يحسن لمن أساء وتمادى في الإساءة، ويجبر الخواطر، ويبلسم الجراح بطيب الكلام، وينصح بصدق، ويبرهن بالفعال، ويقيل العثرات، ولا يعامل بالمثل، بل برؤية إحسانية تبتغي رضا الله، فهو يجد سعادته في العطاء، وضبط النفس وإلزامها بكل خير.
أسرته تشربت مبادئه التي استقاها من الخصال النبوية، والسيرة الشريفة للحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه؛ فصار البيت كله يتبنى الفلسفة نفسها، ليصبح مقصدا معروفا للجار القريب، والقريب البعيد، نتاج عدة ضوابط أخلاقية؛ تتلخص في الترفع عن الصغائر، والنأي عن تصيد الزلات، والتماس الأعذار، ليضع نفسه مكان الشخص المسيء إذا ما بدرت منه الإساءة، فهو إما في حالة ضعف وانكسار، أو لأسباب خفية أثقلت كاهله وهموم كبيرة نغصت عيشه، أو لعوامل نفسية أخرجت أسوء ما فيه، مع حسن الظن فيه، فالظاهر يشهد له بالخيرية.
استطاع نجمنا أن يتحلى بمهارة التغافل عن الهفوات، والتغاضي عن الفلتات غير المحسوبة، وتجاهل السلوك الخاطئ، الذي من شأنه أن يكسب وقتا للتفكير، ويفتح بابا لدراسة المشكلة من جميع جوانبها، وسبر أغوارها، دون تأجيج لفتيلها، بل بسعي حثيثا مع تؤدة وحكمة في إيجاد حلول لها، وتجنب الوقوع في ردود الأفعال التي غالبا ما تكون نتائجها وخيمة، وبذلك يتلافى الوقوع في مشاكل الجوار.
وبتلك المبادئ الرفيعة، والانضباط الأخلاقي، وآليات التحكم في النفس، أمكنه من تمتين شعرة معاوية كي لا تنقطع، لذلك فكل علاقاته تعد نموذجا مصغرا لما ينبغي أن يكون، ومساحات قيمية للتقارب والتفاهم الإنساني، رغم إكراهات الكائن والممكن في الواقع الاجتماعي.
لا غرو أن فلسفته تتماهى مع قوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله وغيره: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر عن معسر، يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه..».
ومن ركائزها قوله تعالى في سورة فصلت: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، الآيتان 34 – 35. وأمر الله في هذه الآية بإحسان خاص وهو الإحسان لمن أساء، وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة إلا من صبر نفسه على ما تكره، وأجبرها على ما يحبه الله تعالى، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، فكيف بالإحسان إليه؟!
لن تتأتى هذه الخصلة إلا لأهل الحظ العظيم في الأخلاق، وبها ينال العبد الرفعة في الدنيا والآخرة.