لا شك أن انتصار المقاومة على الاحتلال الصهيوني، لا يقاس بمعايير ميزان القوى العسكري، ولكن بفضل الكريم الوهاب، ثم بالمعايير الاستراتيجية المعلومة في إدارة الصراع والحروب، فإذا الكيان ظل طيلة 11 يوما من الحرب يبحث عن نصر مزعوم بقصف المدنيين وقتل الأطفال والنساء، وتخريب المباني والمنشآت والبنيات التحتية لإظهار عظمة الجيش الذي لا يقهر، فإن أطروحة “إسرائيل الكبرى” القوية المستأسدة انكسرت على صخرة الشهداء، وعمليات المقاومة المباركة التي غطت صواريخها وقذائفها لأول مرة كل التراب الفلسطيني المحتل، كما أدارت المعركة بتوفيق من الله عز وجل بصلابة وعقلانية وقوة ردع غير مسبوقة.
نعم انتصرت غزة وفلسطين كل فلسطين، لأن المعركة تمحورت حول القدس وما أدراك ما القدس، فالمقاومة تقول اليوم لكل العالم إن المسجد الأقصى وما حوله وأكناف البيت وحي الشيخ جراح والضفة وغزة وكل فلسطين قضية واحدة لا تتجزأ، وبذلك تجيب بأن قضية المقاومة هي قضية كل فلسطيني، لأنها معركة طرد الاحتلال والدفاع عن كل شبر من أرض فلسطين ومن هنا كان للانتصار أبعادا استراتيجية جد مهمة ومنها:
• إعادة الاعتبار لمحورية ومركزية المسجد الأقصى ورمزيته في الصراع مع الاحتلال الصهيوني الغاصب، وحشد كل الأمة لنصرة الأقصى مقاومة وشعبا وجماهيرا، فأكبر إنجاز استراتيجي هو أن المقاومة استطاعت أن تربط بين قضية القدس وغزة وكل التراب الفلسطيني.
• توحيد المعركة الاستراتيجية ضد الاحتلال وإظهار صلف المحتل، فلأول مرة يكون سبب الحرب هو قضية تدنيس الأقصى والاعتداء على حي الشيخ جراح وهي أماكن خارج قطاع غزة، مما أحيا رمزية الصراع حول الأرض كل الأرض، وأعاد ملف التهجير القسري وسؤال اللاجئين والمهجرين قسرا إلى الواجهة الدولية، وساهم في إفشال سعي الكيان إلى تقسيم الشعب الفلسطيني.
• طي وعي الكيان الغاصب واختراق بنياته النفسية وزرع ثقافة اليأس وروح الهزيمة والقنوط في نفوس الاستيطان، وهو ما ظهر جليا في اللجوء للملاجئ وتصريحات المستوطنين وحالات الفرار الجماعي، مما سيدفع الكثيرين منهم للخروج والتفكير مليا في العودة لأصولهم لأن وهم الاستقرار والرفاه والقوة تبخر سرابا على أيدي المقاومة.
• تحقيق إجماع فلسطيني منقطع النظير حول المقاومة وخيار المقاومة رغم الثمن الباهظ من أعداد الشهداء وخسائر الحرب في البنيات، إلا أن الشعب الفلسطيني التف بكل فئاته وفصائله حول قيادة المقاومة مما اضطرت السلطة الرسمية في الضفة لتساير خطاب ونفس الشعب الفلسطيني حتى لا تظهر معزولة.
• إبراز التطور النوعي الكمي والكيفي في القدرات العسكرية لفصائل المقاومة، التي أبانت عن قدرات هائلة في استهداف العدو عسكريا من خلال صواريخ أكثر تطورا، واستعمال أدوات عسكرية جديدة غير مسبوقة في الحروب السابقة ما أربك الاحتلال، الذي عجز عن تحقيق مكاسب عسكرية ولم يستطع أن ينال من قوة المقاومة.
• فرض معادلات ميدانية جديدة على الأرض، من خلال سياسة الردع، فالمقاومة ظلت ترد على قصف المدنيين باستهداف تل أبيب، محققة إنجازات عسكرية غير مسبوقة، كما أنه لأول مرة في تاريخ المقاومة يتم إرغام الكيان الصهيوني على تعليق المجال الجوي في المطارات الدولية.
• إعادة الحيوية للقضية الفلسطينية بعد مسلسل التطبيع المشؤوم الذي صرفت عليه أموال وجهود وجولات ولقاءات وقمع للشعوب المنددة، لكن يشاء الله العلي القدير أن تعود القضية الفلسطينية إلى أجندة الإعلام والسياسة العالمية، لكن بمقاربات جديدة بعيدة عن وهم مسلسل السلام، ومخرجات اتفاقية أوسلو ومحددات دايتون، بل هذه المرة بمعايير المقاومة كخيار وطني مجمع عليه وجب استحضاره في أروقة الأمم المتحدة.
• إسقاط كل مخططات التطبيع ومسلسل السلام والمفاوضات، وإبراز الحاجة لمشروع وطني فلسطيني مبني على خيار المقاومة مما يستدعي ترسيخ هذا الخيار في الضفة والقدس، ولعل انتفاضة وهبة الفلسطينيين تؤكد الحاجة لهذا الخيار الذي يجد صدى له في كل التراب الفلسطيني، والرسالة هنا موجهة أساسا لحركة فتح التي ينبغي لها أن تراجع خياراتها وعلاقتها مع سلطة أوسلو.
• تعزيز خيار المقاومة الشعبية المستدامة في القدس والضفة الغربية ومدن الداخل المحتلة منذ عام 1948. وتحريك زخم الانتفاضة الشاملة المحتضنة للقيادة السياسية للمقاومة الشعبية، مما شكل نقطة تحول كبرى في الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني، حيث أصبحت القضية الفلسطينية أكثر قبولا وتعاطفا.