حِرْتُ والله في اختيار آية من آيات القرآن الكريم الساحرة لي شخصيا بنصاعة بيانها، وعذوبة ألفاظها، وقوة حُجّتها، وفرادة نورانيتها… أَوَ يوجدُ في القرآن الكريم ما لا يَسْحر؟
لكنْ لمّا كان لا بُد من الاختيار آثرْتُ الحديث عن آيةٍ كنتُ في ما مضى أمُرُّ عليها مرور النيام، إلى أن أيقظني الملِك الوهّاب بصُحبة الأيقاظ المُوقنين فصِرْتُ أرى إعجازها بشحمة العَين، أراهُ كلَّ يوم سيما هنا في أوروبا، فيزداد عَجَبي من القرآن، ويُسِبْحِل باطني من عظمة العليم الخبير، وينخنس قريني لعنه الله أمام وضوح الدليل وسطوة البرهان. نعم أخي بلا مبالغة!
قال الله تعالى في سورة النساء مُخبراً عن قيل الشيطان المريد: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه. وتفسير عبارة “خلق الله” على نحوين. أما الأول، فقال عِكرمة وجماعة من كبار المفسرين: “فليُغيّرن خَلْق الله بالخِصاء والوَشْم وقطع الآذان.. والحديث هنا عن إخصاء الدواب وقطع آذان الدواب.
أقرأُ شرح العلماء الأوائل وأنظر ما يجري في هوس عالمنا فأدهش. لم يطُفْ بخيال سلفنا يومئذ أن التغيير القادم أخبث وأنكر مما عايشوه بما لا يُقاس. لمْ يدُر بخَلَدهم أن ما استنكروه سوف يُعتبر لعب أطفال بالمقارنة مع عصرنا. آية مُعجزة لإخبارها بما هو آت بعد أربعة عشر قرنا، إذ لا يمكن النظر إلى الإخصاء وقطع آذان الأنعام على أنه تغيير مطلق لخلق الله مثلما هو حادث في هذا الزمن.
أَنظرُ حواليّ فأجد أنّ الإصرار على تغيير خلْق الله كما يُفهم من نون التوكيد في كلمة “فلَيُغَيّرُنَّ” قد طال كلَّ ما بَرَأَ اللهُ من نبات ونَعَم. إصرار عجيب مثير للاستغراب رغم استنكار أهل الطب وعلوم الغذاء لشيوع الأدواء وتفشي الأمراض الفتاكة الناتجة عن ذلك والتي لم تكن في مَنْ كانوا قَبْلنا. انظُرْ رعاك الله مثالا بسيطا وهو كيف صار لون الدجاجة في زمننا وكيف أصبح لحمها وبيضها؛ على أن هذا التغيير لا يُعد تغييرا مباشرا فهو في طريقة التربية ليس إلا. لكن انظرْ أو اقرأْ عن سمك السلمون الذي تضاعف حجمُه ثلاث مرات في أمريكا الاختراع والتطور بلا وجهة، وعن البطيخ الأحمر الذي تحول من الشكل الكروي إلى الشكل المربع في الصين. والقادم خطْب أعظم وفتنة صمّاء تحت عنوان قارعة: التغيير الوراثي!
أما ثالثة الأثافي فهو تغيير شكل الإنسان سيما الوجه إذ تتحدث الإحصائيات الدولية عن عدد يفوق 15 مليون عملية جراحية كل سنة! إصرار على تغيير الخِلْقة رغم أن التجربة بينت بشهادة حتى غير المسلمين على أن من جرى عليه التغيير يستحيل مع الوقت مسخا آدميا. ويبقى قمة الإفساد والظلم ومنتهى الطغيان والجراءة على الله تحويل الذكر إلى أنثى وتحويل الأنثى إلى ذكر والدعوة إلى ذلك في وسائل الإعلام بل في المدارس ـ عن مدارس أوروبا الغربية أتحدث ـ، والدفاع عن ذلك بشراسة منظمة، وسياسة رسمية ممنهجة عابرة للقارات.
ولَيغيّرُنَّ خلقَ الله!
أما النحو الثاني فقول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي وسعيد بن المسيب والضحاك وعطاء الخراساني رضي الله عنهم: “خلق الله” يعني دين الله. وقد اعتمدوا في هذا على شواهد كثيرة منها قوله تعالى: “فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله”. فإذا كان الكفرة وقتئذ يستبدلون لسذاجتهم عبادة الحجر والشمس والقمر بدين الله، فإن ملاحدة العصر وفسقته، ومنهم مُتأَسْلِمون ناطقون بلغة الضاد، يستهدفون مسخَ الدين بالكُلية، مع الإبقاء على رَسْمه لاستحالة اجتثاثه مِن على الأرض. هؤلاء الدهاة الخبثاء يعمدون لتقويض أركان الدين بالتشكيك في مصادره الكبرى وهي القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويستبيحون مضامينهما بإخضاعهما لسلطة العقل المعاشي المقطوع عن الله، والطعن في الصحابة الكرام والرواة الثقات، وليّ أعناق النصوص حتى تنطق بما يبغون، والوقوف في ويل للمصلين مع البعبعة وكثرة الكلام في الإعلام حتى يستقر التحريف في أذهان العامة التي لا تقرأ. ثم يُفسح المجال أمام كل لُكع لينشر “فكرَه” المسموم في مؤسسات البحث المناوئة، وصحف العدو المتربص بالإسلام والمسلمين، ومنابر الخديعة الماسونية الحاقدة، ويتكلم في ما لا يعلم. فهذا نقد بنيوي للتراث، وهذه مقاربة تاريخانية للنص القرآني، وتلك قراءة حداثية للموروث المقدس، وهلما دجَلاً.
ولمنْ لا يعرف مفهومَ الحداثة التي تلوكُها الأفواه في آفاق شتى، أسوق هنا تعريفين من تعاريف الكلمة/اللغز التي لا تنتهي. يقول أحدهم وهو عربي اللسان:”[هي] حركة تفكيكية تستمد معناها وقوى دفعها من رفض أو نفي ما حدث قبلا”. ويقول آخر بوضوح وهو من المنظرين الغربيين الأوائل: “[الحداثة] سلسلة من التحولات في المجتمع المعاصر قائمة على أساس التمدن والتصنيع والعلم والتكنولوجيا، والتي أصبحت أساساً لفكرة الشك الديني وعدم الاعتقاد بصحة الكتب المقدسة”. دفن الدين والسلام!
وآخر ما تفتقت عنه عبقرية الفكر المُغير لخلق الله تعمّد طباعة المصحف الشريف بأخطاء لغوية مُخِلّة بالمعنى، وغض الطرف عن ذلك حتى ينتشر الخطأ، ويضِلّ الناس، ويعُمّ البلاء.
ولَيغيّرُنَّ خلقَ الله!
آمنت بالله وبكتابه العزيز.
لا إله إلا الله!