شاب نشأ في عبادة الله! 

Cover Image for شاب نشأ في عبادة الله! 
نشر بتاريخ

يوم القيامة يوم عظيم تشيب الولدان لهوله وشدته، ويصور لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المشهد المهيب الذي رواه عنه المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تدنو الشمسُ يومَ القيامةِ من الخلقِ، حتى تكونَ منهم كمقدارِ مَيلٍ، فيكون الناسُ على قدرِ أعمالهم في العَرقِ، فمنهم من يكونُ إلى كعبَيه، ومنهم من يكون إلى ركبتَيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيه، ومنهم من يلجُمه العرقُ إلجاما” (رواه مسلم).

والكل يومئذ ينظر إلى المنعمين في ظل الله عز وجل يحميهم من شدة الحر وصعوبة الموقف، وقد ذكرهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ في خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا، قالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما صَنَعَتْ يَمِينُهُ” (متفق عليه).

نقف وقفة مع “شاب نشأ في عبادة الله”؛ فما مفهوم العبادة؟ ولماذا ذكر الشباب بالخصوص؟ وما هي العبادة التي توافق الشباب في مراحل عمرهم؟

1- مفهوم العبادة

العبادة لغة: مشتقة من التعبد وهو التذلل، يقال طريق معبد أي مذلل، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يفعلونها خاضعين ذليلين.

وأما اصطلاحا فعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

فالعبادة لا تنحصر فقط في الصلاة والصوم والحج، بل هي كل ما يفعله المسلم ويقصد به وجه الله عز وجل، شرط أن يكون العمل خالصا لله وصوابا يوافق السنة، وبذلك تنقلب كل العادات وإن كانت ضرورات حياتية مثل الأكل والشرب والنوم إلى عبادة. قال سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه: «وأنا أنام أول الليل وأقوم آخره، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» (صحيح البخاري).

وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام: 162-163).

وقال صلى الله عليه وسلم: “وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ! قالوا: يا رسولَ اللهِ! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له فيها أجر” (رواه مسلم).

 وهذه العبادة لا تكون قهرا بل حبا لله واستسلاما وانقيادا له، فكلما ازداد العبد حبا لله زاد خضوعا وتذللا وعبودية فيرفعه الله لمقامات القرب منه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إن الله قال “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه” (رواه البخاري).

والعبادة تحتاج إلى جهد وعزيمة كبيرين لمخالفة الأهواء والشهوات، وبالمداومة على العبادات تكتسب النفس أمورا كثيرة: فإقامة الصلاة بخشوعها تكسب النفس صفاء وقوة وتركيزا، قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (المعارج: 23)، والصيام يكسب النفس قوة العزيمة والانضباط واستشعار مراقبه الله عز وجل، فمجاهدة النفس المتواصلة مع صحبة صالحة تزكيها وتطمئنها فتنزل عليها السكينة، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (الفتح: 4). وقال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب (الرعد: 28).

2- لماذا ذكر الشباب بالخصوص؟

الشباب يتميزون بالعطاء وقوة العزيمة وتحديد الأهداف بوضوح، ولهم القدرة على تحمل أعباء الحياة، كما أنهم يتميزون بالشجاعة لمواجهة التحديات، ومما يميزهم أيضا ثورات العاطفة ونضوجها حيث يرغبون في تأسيس علاقة شرعية وذلك من خلال الزواج ويفكرون في بناء أسر مستقلة.

فهذه المميزات إذا اجتمعت مع العبادة ونشأ معها في بيئة إيمانية حاضنة؛ حصل التوازن عند الشباب فيفجر طاقات هائلة من الإبداع والعطاء كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول من صدق به شاب وهو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، وسيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنه أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش وكان عمره 18 سنة، وسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه أسند إليه النبي صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن وعمره أزيد من الثلاثين.. وهناك نماذج من الأجيال التي جاءت من بعدهم أبلوا البلاء الحسن في إعلاء راية الإسلام، وفتح محمد بن القاسم الثقفي بلاد السند والهند وعمره 17 عاما، وفتح محمد الفاتح العثماني القسطنطينية وقد جاوز العشرين بقليل.. صدق فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يعجب من شاب ليست له صبوة” (أخرجه أحمد عن عقبة بن عاهر)، يعني ليس له ما يفعله الصبيان/الشباب من الوقوع في المعاصي والسيئات في أول أعمارهم، فهو من حين نشأ في عبادة الله وطاعته، ليس له صبوة، ليس له أوقات انحرف فيها عن الهدى.

فهذا العجب منه سبحانه أنه يستحسن عمل هذا الشيء فيعظم قدره عنده ويجزل له أجره؛ لكونه ليس له خطيئة ولا إصرار على معصية، وخص الشباب لكونه مظنة غلبة الشهوة، فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى.

3- عبادات الشباب التي توافق مرحلة عمرهم

لكل مرحله خصوصياتها ومن خصوصيات العبادة عند الشباب:

1- الالتزام بالفرائض: لاسيما الصلاة في وقتها، وتكون أجمل إن افتتحها بقيام الليل، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (الفرقان: 64).

2- بر الوالدين: قال تعالى: وقضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيما (الإسراء: 23)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد” (رواه ابن حبان في صحيحه)، ويكون بر الوالدين بالإحسان إليهما وبالقول الطيب وصحبتهما وطاعتهما إلا في معصية.

3- طلب العلم: والتميز فيه، قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (المجادلة: 11). فكل التخصصات يكمل بعضها بعضا؛ سواء كانت علوما كونية أو علوما شرعية، فكلها تبني صرح الأمة.

4- التقوى: واستشعار مراقبة الله عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: “اتق الله حيثما كنت” (رواه الترمذي) لا سيما في الخلوات.

5- العفة: وأول عتبات العفاف غض البصر، فمن غض بصره ارتاح قلبه ومن أطلق بصره شقي قلبه بمطاردة الهوى.  وللشباب قدوة في سيدنا يوسف عليه السلام في هذا الزمان الذي يموج بالفتن والشهوات.

خاتمة

قوة الأمم ونجاحها وتفوقها من نجاح شبابها وعلو همته، فنحن نحتاج لشباب قوي وأمين، نشأ في العبادة حتى قويت جذوره.

فاللهم أصلح شباب أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأقر عينه بهم.