تحتفي جماعة العدل والإحسان بالذكرى الثانية عشرة لرحيل مؤسسها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، وكالعادة؛ جلبت مجريات هذه الذكرى أنظار المهتمين والدارسين والباحثين لحسن اختيارها لموضوع المذاكرة والمدارسة، ألا وهو موضوع “الشباب ورهانات البناء والتحرير”؛ تمد من خلاله جسور الحوار الهادئ مع كافة الفاعلين داخل المغرب وخارجه.
وحينما نتحدث عن الشباب ورهانات البناء والتحرير، فإننا نقصد الأجيال التي على حسب توجيهها، وفعالية تواصلها يتحدد المستقبل لهذا الوطن الحبيب.
ولعل من أهم المشاريع الواعدة في هذا الوطن الغالي، وعلى امتداد العالم الإسلامي؛ مشروع جماعة العدل الإحسان الذي أسسه الإمام عبد السلام ياسين منذ أزيد من اثنتين وأربعين سنة من خلال التنظير الأساسي المستند إلى “نظرية المنهاج النبوي” في الأساس التربوي الإيماني الإحساني وامتداداته في الجوانب العلمية والعملية والسياسية وسط الناس، ومن خلال الممارسة الميدانية بمباشرة تربية أجيال شبابية من الرجال والنساء الذين صاروا خلال هذه المرحلة حاملين للمشروع قادرين على تمريره للأجيال المستقبلية استشرافا لمستقبل الأمة من خلال الحديث المركزي المعتمد في نظرية المنهاج النبوي، والتي لخصها الإمام رحمه الله في قوله: “أمّا المنهاج النبوي، وهو السنة التطبيقية العملية النموذجية، التاريخيةُ بعدُ، البشرية المتجددة في الزمان والمكان باجتهاد أجيال الإيمان، فنجدها ونستمدها لفظا ومحتوى وتَوجُّها وبشرى للمؤمنين، وبُشرى للمحسنين، وعامِلَ ثقة في موعود الله عز وجل وبلاغِ رسـوله الكريم صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث العظيم الـمُنبِئ عن العِز المستقبَل الذي ينتظر هذه الأمة المرحومة أصلا، المقهورةَ بلاءً، الصاحية اليومَ، المتيقظة المجاهدة المنتصرة بإذن الله.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد رحمه الله بسنده الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون مُلكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت»” 1.
– فما هي المكانة التي تحظى بها الأجيال الشبابية في نظرية المنهاج النبوي عند الإمام رحمه الله تعالى؟
– ما هي العقبات التي تحول دون اضطلاع الشباب بوظائفه الطلائعية في الحال والمآل؟
– ما هو المواصفات المطلوبة في أجيال المستقبل في مكتوبات الإمام رحمه الله تعالى؟
هذه الأسئلة وغيرها نقاربها في الورقة البحثية كالتالي:
أولا: مقدمات
ثانيا: المواصفات
ثالثا: الوظائف
رابعا: الاستشراف.
أولا: مقدمات
المقدمة الأولى: خيرية أجيال الأمة الإسلامية في شبابها
فكما أن أغلب أهل الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم كانوا شبابا وبجهودهم تمت عملية التأسيس الأول للأمة المرحومة، كذلك الأمل معقود على أفواج من الأجيال المتجددة والتي تبشر الأمة الإسلامية بالثبات على الحق في أزمنة الفتن، بل بمضاعفة الأجر، كما هو الشأن في شباب غزة العزة وأمثالهم، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره؟” 2، فالخير في هذه الأمة دائم إلى قيام الساعة، وحديث: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم” 3.
ولقد تنبه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى لهذا الأمر واستحضر الأجيال اللاحقة في وصيته المعروفة التي خلدها في التاريخ، يقول: “ألا وإن لي أشياء أوصي بها من يسمع ويعقل، صدىً وترجيعا يبلغه الله عز وجل آذانا واعية وقلوبا صاغية. إن شاء ربنا الولي الحميد. صدى ترجعه إن شاء الله أجيال العدل والإحسان إلى يوم الدين، لتشهد يوم القيامة الأشهاد أن عبد السلام ياسين عبد مفتقر إلى عفو ربه مُقر بذنبه يشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. وأن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله دعوة صادعة وحجة على الخلق بالغة وخلافة على منهاج النبوة بعدُ يانعة رائعة” 4.
المقدمة الثانية: الصحبة انطلاق الجيل المؤسس ومجددة الخيرية في أجيال الأمة
دبجنا في المقدمة حقيقة أن المشاريع العظمى إنما تكون ذات الأثر الإيجابي بحسب الحاملين لها؛ تربية وتشربا، وعلما وتعلما، وحركة ومسارا في الأمم. ولا ريب أن ذلك نابع من قلب المصحوب الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة، ومن قلب كل مجدد لمعاني هذه الصحبة وتجلياتها عبر الأجيال “وكل تاريخ الإيمان يشهد بأن قلب الداعي إلى الله على بصيرة، نبيا كان أو وليا، هو النبع الروحي الذي اغترفت منه أجيال الصالحين بالصحبة، والملازمة، والمحبة، والتلمذة، والمخاللة. وعلى قدر المصحوب إيمانا وإحسانا وولاية ينتفع الصاحب. ومن المؤمنين من يرفع الله همته لطلب معرفة ربه والوصول إليه مع الذين أنعم الله عليهم، فمن كتب الله سبحانه له سابقة خير يسره لصحبة دليل رفيق، ولي مرشد”.
فالصحبة مفتاح ونبع تغرف منه أجيال هذه الأمة، كُلّ جيل يحافظ على معاني الجهاد والإيمان فيزرع هذه القوة الجهادية وهذه الإرادة الجهادية 5 في قلوب الجيل الذي بعده.
“ونرجو من الله عز وجل في زماننا هذا وفي مطلع هذا القرن المنور بحول الله وقوته أن يؤدي كل واحد منا الأمانة للناس فينتشر الإيمان ويقوى صَفُّ الجهاد” 6.
لقد مرت أزيد من اثنتين وأربعين سنة من العمل الدؤوب تربية وتنظيما وحركة وسط عالم شديد التغير، سريع التطور مع الوعي التام بأن صنع مستقبل الإسلام: “صنع تاريخ الإسلام. مسألة أجيال، مسألة قوة أجيال، مسألة كفاءة أجيال، مسألة إيمان أجيال، مسألة تربية أجيال، مسألة تأصيل أجيال، مسألة توصيل أجيال لتستقي من ينابيع الوحي وتستنير بأنواره. والحمد لله رب العالمين” 7.
المقدمة الثالثة: عقبات الجيل الحالي
الناظر إلى أحوال الأمة اليوم يتضاءل أمام هول العقبات التي تواجهها على عدة أصعدة مما يجعل مهمة الجيل المعاصر حاسمة في المعادلة، إذ: “لم يواجه جيل من أجيال المسلمين تحديات في حجم وضرورة ما نواجه… فأرضنا محتلة، ولا سلاح معنا مما ننتج ونملك التصرف فيه، ولا اقتصاد، ولا حافز ولا قدرة على التنظيم. أعداد غثائية ولا حافز ولا قدرة ولا قيادة. أعداد ولا سلاح، أعداد تهزمهم بقيادة الجبر شرذمة صهيون. في عقر دارنا التحدي وعلى رأس أمرنا. ومن حولنا وفي نفوسنا: ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال: 53). تحدي الأمن الغذائي، تحدي كفاية السلاح، تحدي الكفاءة الاقتصادية، تحدي النفط (هو شريان الحياة في الاقتصاد العالمي وهو لنا نهر تتسرب منه مروءتنا وقيمنا، ووثاقٌ يربطنا برباط العبودية لمستكبري العالم ومرابيه). تحدي الفرقة والعداوة بين حكام الجبر. لعبة العالم تتقدم، ونحن الحجرة النكراء في الرقعة” 8.
وعلى الرغم من هذا التوصيف الواضح لحال جيل الأمة الحاضر، فإنه ينبغي الحذر من أن نتركها لكل قصف يجعلها أجيالا شبابية غثائية: “هذه الأجيال الصاحية رضعت لبان الإسلام مصا ورشفاً من رجال الدعوة الحاملين لميراث الفطرة. فإن لم يتح لها أن ترتوي من اللبان الفطرية لتبلغ الإسلام وتنشر الإيمان وتتعلم الإحسان فإن المرضعات العواهر، مرضعات الفيديو الخليع والمخدرات والمجتمع الاستهلاكي بعامة، يسبقننا إلى هذه الأجيال المتكاثرة السائبة في بلادنا” 9.
ثانيا: المواصفات المطلوب توفرها في أجيال شباب المستقبل من أجل البناء والتحرير
تسعى جماعة العدل والإحسان إلى الإسهام في بناء جيل من الشباب، بل أجيال ذات طابع إحيائي لمستقبل الأمة الإسلامية ولمستقبل الإنسانية بشكل عام، جيل ذي مواصفات أساسية ومصيرية، ولعل من هذه الصفات ما يلي:
1. الربانية: جيل على قلب “الجيل القرآني الأول”
الربانية صفة نورانية تكتسب من علاقات القلوب المؤمنة المستمدة من قلب المصحوب ومن بعضها البعض حياة المصحوب وبعد انتقاله إلى الدار الآخرة، ذلك أنه: “لم يبق مكان للنبوة بعد بعثة خاتم الرسل صلى الله عليهم وسلم. ولئن كانت جماعته، جماعة القرآن من المهاجرين والأنصار عماد الخلافة الأولى، فإن أية خلافة ثانية لا يمكن تصورها ما دام لا يوجد جيل على قلب “الجيل القرآني” ورجولته ونورانيته. ومن أين يأتي كل هذا إن لم نستلهم كلمة الله الباقية وكلمة رسوله الواعدة لنكون رجالا كما كانوا رجالا؟ … قال الله عز وجل في سورة النور (آية 35): يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ. ِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ.
تكون هذه الأجيال المباركة إن شاء الله تعالى من أهل النور، وتكون صنوا للجيل القرآني الأول، وتكون عماداً للخلافة الثانية 10 إن كان كل فرد فرد، ذكرا أو أنثى، تتمثل فيه الرجولة التي تمثلت في الأولين، “فلكيلا يكون هذا الجيل المبارك “يُغَثِّي” أجيالا لاحقة نرجو من الله نور السموات والأرض أن ينور القلوب بربانية تزكي وتصفي” 11.
2. الرشد والتماسك
الرشد دلالة على النضج المطلوب والقدرة على بث تجلياته في الناس، وهذا يتطلب شبابا متماسكا فيما بين عناصره، مستمسكا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والتي تنظر عاليا وبعيدا: “لن تكون قومة ولا إسلامية إلا بقدرة رجالها على التماسك فيما بينهم ليواجهوا الانحلال وإغراءه. لن تكون كذلك إلا بقدرتهم على إبطال الباطل وإحقاق الحق. وسيرثون الخراب والفراغ والهياكل النخرة. فما أشق المهمة! لا بد أن يكون الصف مكونا من عناصر قادرة على التماسك، ولا بد داخل الصف أن نميز العناصر القيادية ذات الاستعداد العالي لنضعها في مكان المسؤولية. والجماعة بعد هذا، وبقوة تماسكها، تستطيع أن تستقطب عطف الشعب، وتستدعي سنده ودعمه، بل واجبها أن تعلم الشعب وتربيه وتعبئه. ولا تملك أن تفعل إن كان صفها ضعيفا. صحبة وجماعة + ذكر + صدق، هذه معادلة التربية الإسلامية في خطوطها الرئيسية” 12.
تمثل هذه الصفة أساسا متينا لأجيال شباب البناء والتحرير، مؤسسة على تربية إيمانية إحسانية تروم بناء الشخصية المؤمنة، المتطلعة إلى المعارج الإحسانية، والمنطلقة من تصور واضح من حيث تعلم الدين وتعليمه للناس، من خلال قوة حركية هادئة تُتَلَقى في النسيج المجتمعي بالقبول وتسهم إلى جانب فعاليات شبابية أخرى في رسم طريق المستقبل.
3. الرسوخ والثبات
يستلزم الرشد والتماسك باعتبارها صفة للأجيال الشبابية من هذه الأمة الإسلامية قدرا هاما من الرسوخ والثبات يؤهلها لتكون قدوة هادية لأجيال الإنسانية مستقبلا 13، بل إن مدار التربية والدعوة والحركة في جماعة العدل والإحسان على المؤمن الشاهد بالقسط القائم لله: “هو المؤمن القوي الأمين الثابت في رباطه لا يتزعزع عن خط سيره مهما كانت العقبات. هو المجاهد الذي لا ينكشف عن الصف إن هرب الناس، ولا يقعقع له بالشنان. هو المؤمن المسؤول. حوله تتألف الجماعة يشيع فيها بنورانية قلبه معاني الإيمان، وبلطف معشره ولين جانبه المحبة، وبصرامة إرادته وضبطه الثقة. هو المجاهد القادر على بعث الإرادة الجهادية في الآخرين، وعلى توجيه التربية والحركة قبل قيام الدولة الإسلامية وبعدها” 14..
وشرط ذلك التحلي بخلق الصبر والثبات على ذلك “الصبرُ على البلاء، وعلى البلاء مبنى الحياة والموت والمسيرة في الدنيا، والثبات في مواطن الخطر، وتحملُ الأذى في سبيل الله عنوان الرشد والعزيمة، وشرط الفلاح والنجاح والنصر. قال عز وجل يوصي رسوله وحبيبه ﷺ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ (الأنعام: 34). لا تتغير سنة الله تعالى في كون رجال الدعوة وأمناء الرسالة يواجهون بالتكذيب والأذى، كما لا تتغير في كون النصر يَعْقُبُ ذلك بشرط الصبر لهذا كان رسول الله ﷺ يسأل ربه عز وجل الثبات فيقول: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد». رواه الترمذي والنسائي عن شداد بن أوس رضي الله عنه” 15.
كما يتطلب الأمر وجود جماعة من المؤمنين ذوي المجموع الطيب من شعب الإيمان القادرة على توريث ذلك للأجيال الشابة، بل جماعات من الشباب المتعاونين على الخير: “والثبات كلُّ الثبات أن تصمد الجماعة الحاملة، واحدة أو متعاونَةً مع الجماعات العاملة للإسلام، للتيار، وأن تصبر على الغرس حتى يطلع، وأن تستصلح من القوى الاجتماعية كل ما يمكن استصلاحه من أهل الخير؛ نفس طويل ونظر عال نجد تفاصيله النفيسة عند الإمام ياسين رحمه الله تعالى في خصلة التؤدة في كتابي “المنهاج النبوي” 16 وكتاب “الإحسان” 17، كما نتلمس ثمراته في الاختيارات التي نهجتها الجماعة في الميدان خلال العمل الميداني في الواقع المتلون.
4. الاقتحام الدائم
هذه صفة صابغة لأجيال شباب البناء والتحرير في كل زمان، ومحرك دائم للإرادات الجهادية التي لا تحول دون همتها الصعاب والعقبات، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ تحضيض دائم لليقظة والتحفز واستجماع القوى الفردية والجماعية وطلب المعالي على مستوى الأفراد والجماعات في خط تصاعدي يروم العزة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
جيل شباب الاقتحام ذوو إرادة صلبة لا تخلو من مرونة واعية بالواقع المعيش والمقاصد المرجوة والإمكانات المتاحة، دائم اليقظة مستدام الفطنة: “تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام. حركة الفرد المؤمن في سلوكه إلى الله عز وجل، وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية، وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية 18. بهذا يكون كل جيل لاحق ولدا صالحا للأجيال السابقة ويبقى في ميزان حسناتهم لا ينقطع أجرهم وأجر من سار على سنتهم إلى يوم القيامة، أجيال بعضها من بعض والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثالثا: الوظائف
لعل الإرهاصات الحاضرة اليوم فيها بشارات عديدة على أن الزمن زمن يقظة إسلامية للأجيال الشابة المنقذة للبشرية مما كسبت يداها وبث بذرة الهداية في ثناياها، وهذا يتطلب النظر في الوسائل الكفيلة بتحقيق الوظائف الإحيائية للأمة الإسلامية، يمكن تحديدها فيما يلي:
1. الكينونة مع أهل النور
الأنوار لا تتزاحم، وإذا كان موطن النور هو القلوب المحسنة، منها يشع في القلوب المحيطة بها، فإن المدخل الأساسي بذلك هو التشرب الصادق والكينونة المخلصة مع أهل النور، فلقد: “جاء الله تعالت حكمته بهذا الشباب من جهات شتى ومن حروث شتى على زرع الله. فهل تستطيع هذه الأجيال الشابة أن تحمل عبء التهييء للخلافة الثانية؟ هل انتبهت هذه الأجيال إلى موضع “داء الأمم” من حركة التاريخ كلها، أم هل نَبَّهَهَا منبه إلى النموذجية التربوية في حياة الصحابة الذين نشأوا في حجر النبوة، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا؟” 19.
هذا يحيلنا على المرجعية النموذجية لكل أجيال الأمة الإسلامية المتلاحقة، وخاصة من الآن فصاعدا استشرافا لأجيال النصر والتمكين، إنها مرجعية الصحابة بحضور النبي صلى الله عليه وسلم حيث تتفاعل الصحبة مع الجماعة في اندماج متكامل بين التربية الإيمانية الإحسانية، والدعوة الرفيقة الرحيمة، والحركة القاصدة المتجددة. لا نرفع قدر ذلك الجيل إلى حد الأسطورة والخرافية ولا ننزل بهم منازل عامة الناس ممن لا أثر لهم في تاريخ الناس، لكنه جيل حظي بخاصية كونه جيلا مرجعا تمتح منه أجيال القومة والنهوض المستقبلي الموعودة به هذه الأمة.
2. معرفة المهمة الإحيائية للأجيال
المهمة الإحيائية مهمة مركزية في بناء التاريخ المشرق للأمة الإسلامية، ولعل هذا القرن بما تضمنه من صحوة ويقظة في صفوف أجيال شباب المسلمين، يمثل منطلقا حاسما لإحياء ما مات في هذه الأمة من أسباب التمكين والظهور: “لا بد لهذه الأجيال أن تعرف مهمتها الإحيائية بالضبط. تسود في ثقافة الإسلاميين الأحاديث عن السياسة والاقتصاد والبديل الحضاري وما إلى ذلك من الآفاقيات. وإن مواجهة الثقل التكنولوجي والطوق الإعلامي والهيمنة الجاهلية في الاقتصاد والصناعة والعلوم والفلاحة وكل شيء لا تمكن إلا بالعلم والتخطيط، والكتاب والمحاضرة، والاجتهاد والاستنباط، والتقدم والتعليم، وإعادة بناء العقل الإسلامي” حتى قال رحمه الله تعالى واضعا الأصبع على مكمن الداء: “إن مهمتنا الأولى أيها الأحباب، اليوم وغدا وبعد غد، أن نكون روحا سارية في المجتمع موصولة بأجيال بعدنا إلى يوم القيامة تتحسن نوعية إيمانها وترتفع همتها الإحسانية جيلا بعد جيل، وتنتشر، وتعم” 20..
3. الدلالة على الخط القويم
تقتضي المهمة الإحيائية بالنسبة للأجيال الشابة البادئة في تغيير وجه سفينة الأمة استكشافَ الخط القويم والدلالة عليه كما يستكشف ربان هذه السفينة مسار النجاة في ظلمات البحر اللجي ذي الأمواج العاتية، ف: “القومة أيها الأحباب قيام من السقطة الكبيرة التي انحدرت فيه الأمة عدة قرون، فهي عملية طويلة المدى، معقدة، تريد الصبر والمصابرة. إنها قضية أجيال، وعلى الجيل البادئ في التحويل مسؤولية الدلالة على الخط القويم ومسؤولية توجيه الجهود وجهة البناء العميق لعقود من السنين قبل أن تقطف الثمار.. …نداء القومة وتصريحها وبلاغُها الأول والثاني والأخير تلخصه الآيات الكريمة من سورة الصف، والصف رمز للجهاد الدائم. قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ“ 21.
إنه ربط للقومة، قومة الصف المجاهد تتعاقب فيه أجيال من الشباب الحر من أهل الإيمان والإحسان والعدل والكرم والمروءة والعقل.
4. تربية جيل الإنقاذ
هنا المدخل الأساس للإنقاذ، بل لتربية جيل الإنقاذ، لا يستطيع ذلك إلا ذوي الرشد والرسوخ والتؤدة الرفيقة البانية: “إنما يستطيع أن يربي جيل الإنقاذ رجال لا تستخفهم نداءات الباطل، ولا يلعب بهم الهوى، ولا يتحركون على الظن والهواجس… قولوا لا إله إلا الله تفلحوا… نريد لجند الله أن يتقدموا صفا واحدا منضبطين صابرين، وأن يكون كل منهم قد تحلى بخصلة التؤدة ودرب عليها حتى تمكن. نريد أن يقف كل منهم حيث هو، وحيثما تنقل، موقف الداعية الذي لا يثنيه عن غايته وأهدافه تنكر الناس لدعوته وإذايتهم له” 22.
وفي رسالة للجنة العلمية ولكافة أبناء وبنات الجماعة، يرشد رحمه الله تعالى إلى أهمية فقه الانتقال الذي يسقي الأجيال البانية القادمة: “أعود إليكم – أعزتي في اللجنة العلمية – ملتفتا مما انسقت إليه، راجعا من الدعوة إلى الدعوة. أعود لأسترعي انتباهكم وعنايتكم إلى أن جيلكم المبارك، جيل الصحوة الإسلامية، هو جيل انتقال. انتقال من صحوة لا يزال زخمها في بدايته، كالغيث يبدأ قطرا ثم ينهمر إن شاء الله… بل ريثما تعلمون أنتم جيل الانتقال خلَفا تسقونه من رحيق حب الله ورسوله. تغرسون في الفطَر الطرية قبل أن تتخشب كلمة التوحيد، وعقيدة التوحيد. تزودون الفطر الطرية بزاد التقوى وبكتاب الله عز وجل، يسمعه الرضيع تتلوه الأم المؤمنة لرضيعها، ويحفظه الصبي، وينشأ عليه اليافع، ويستقيم على هداه الشاب والشابة، ويقيم به الرجل والمرأة شأنهما مع الله، وأمرهما مع الناس” 23.
رابعا: الاستشراف: آفاق أجيال العدل والإحسان صلة رحم الإنسانية
أثبت التاريخ بما لا يقبل مجالا للشك أن سرعة انحدار الإنسانية نحو ما لا يرجوه أحد سرعة مفرطة، وأن الاندحار القيمي لهوية الإنسان، بما هو كائن مؤهل لعمارة الأرض، أمر خطير، وأن المجتمع البشري في امتحان عسير لمن يقدم المقترح المنقذ ويصل ما أمر الله به أن يوصل، وأن يصلح ما فسد من تراكمات التاريخ.
تركب البشرية سفينة واحدة، فإما أن يمسك أهل القدرة والكفاءة بأيدي من تسببوا في ثقبها، وإما أن نغرق جميعا: “رحِمٌ واحدة هي رحِم الإنسانية، وحقوق الإنسان، في مقدمتها حقه الأسمى، يُمليها على المؤمنين الأمر الإلهي العَليُّ إن كانت تُمليها على النظراء الفضلاء الخلُقيين ما فيهم من مروءة. قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء: 1).
تسَّاءلون: تُسْألون عن الرحِمِ الآدمية هل أديتم حقها. في مقدمة حقها البلاغ والبيان والشهادة بالسلوك النموذجي والإحسان، والجهاد الدائم لكشف عوائق الظلم حتَّى يسمَع الناس جميعا كلام الله. تعالى الله.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه بهذه الشهادة يقول: «اللهم ربَّنا ورَبَّ كلِّ شيء ومليكَه، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك. اللهم ربنا، ورب كل شيء ومليكَه، أنا شهيد أن محمدا عبدُك ورسولُك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العبادَ كلُّهم إخوة» (رواه الإمامان أحمد وأبو داود). شهادةُ أنَّ العبادَ كلّهم إخوةٌ في الرحِمِ الآدمية تُلزم الشـاهد واجبـاتٍ تُجاهَ الإنسانية لا تنافي ولا تزاحم ولا تعطِّل الإلزام الوَلائي بين المؤمنين، والاصطفاف في صف المسلمين. فشرط أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ قائم بسيف لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ يمنعنا عن الرخاوة والهشاشة التي تُزلق إلى “المثلية البشرية”.
بِر الرَّحِم الآدمية يحبهُ الله الجليل الرحيم. قال عز من قائل: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 24.
من الخصائص الأساسية التي خص الله تعالى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث رحمة للعالمين، ونرجو أن تكون أمته الرحمة في العالمين لتحقق الخيرية الفضلى وسط الأمم، خيرية إنقاذ وإنجاد، نرجو لشباب اليوم أن يكون حامل لواء البناء والتحرير، حامل رسالة إنقاذ للإنسانية جميعها، والوعي الشبابي العالمي في تزايد ليكتشف ذلك، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[2] رواه الترمذي، 4/ 449 رقم الحديث 2869، و فتح الباري لابن حجر 7/ 6-7.
[3] رواه الترمذي، 4/ 449 رقم الحديث 2869، و فتح الباري لابن حجر 7/ 6-7.
[4] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث رقم: 3452.
[5] عبد السلام ياسين، الوصية، ص 10 – 11.
[6] ينظر مفهوم الجهاد في تصور جماعة العدل والإحسان من خلال الخصلة العاشرة في كتاب المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا.
[7] عبد السلام ياسين، اقتحام العقبة، ص 28.
[8] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 216.
[9] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 353 – 354.
[10] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 262.
[11] الخلافة مفهوم نبوي لا يعني الصور المتعاقبة للحكم الإسلامي بعد انقضاء زمن الخلافة الراشدة ثلاثين سنة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي رحمة تعم الناس بعموم دين الإسلام كما وعد الله تعالى.
[12] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 261.
[13] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 74.
[14] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 62.
[15] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي ص 252.
[16] ينظر كتاب المنهاج النبوي ص 311 وما بعدها.
[17] ينظر كتاب الإحسان ج 2 ص 252 وما بعدها.
[18] عبد السلام ياسين، اقتحام العقبة، ص 12.
[19] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 261.
[20] نفسه، ص 265.
[21] نفسه، ص 292.
[22] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 312.
[23] عبد السلام ياسين، الرسالة العلمية، ص 81.
[24] عبد السلام ياسين، العدل، ص 358.