بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه
سيدي وأستاذي،
في الوقت الذي كنتُ فيه ما أزال طفلا صغيرا لا يهتم سوى باللعب واللهو مع أترابه في أحد الأحياء الشعبية بطنجة خلال النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، كان تفكير أحد شباب حيّنا معقودا حول الكيفية التي تجعله يحبّب إلينا الصلاة والأخلاق الحسنة والمطالعة. وقد استطاع بطرق بسيطة جدا أن يبذر في نفوس العديد منا ذلك الحب العميق لأمور كان في الغالب آخر ما يُفكَّر فيه داخل أوساطنا.
وكبرتُ، وكبرتْ معي تلك البذرة، ووجدت – بفضل الله – من يتعهّدها، لأعرف بعد ذلك أن تلك اليد الحانية كانت لمسةً من لمساتك، وتلميذا من تلامذتك. لم ألتق به بعد ذلك سوى مرة واحدة وبشكل سريع، لم يتسن لي خلالها أن أشكره على جميل صنعه، ولكنني بعد ذلك بسنوات كثيرة كتبت مقالا، هو عبارة عن حلقة أولى، أردتها أن تكون سلسلة تحت عنوان “هؤلاء علموني”، وهناك تحدثت عن قصتي معه بحفاوة وافتخار. ولا أدري هل وصلته الرسالة وقرأها أم لا.
سمعت بك – سيدي – لأول مرة بداية التسعينيات، وعمري يومئذ لا يتجاوز الخامسة عشرة ربيعا. يومها ـ وفي غفلة عنا نحن الصغارـ كان عالم جديد يتشكل جراء السقوط المدوي لجدار برلين، وما يعنيه ذلك من انهيار منظومة فكرية وتطبيقات أيديولوجية ملأت الدنيا وشغلت الناس لسنوات طويلة.
سمعت باسمك من أحد الطلبة بالحي الجديد الذي انتقلنا إليه، في وقت كنا نتجاذب فيه أطراف الحديث حول حرب الخليج، بعد دخول جيوش صدام للكويت. كنت أصغر من أن أستطيع الفهم وتشكيل موقف، ولكن الحماسة كانت تملأنا، وكنا نعتقد أن صدّاما قد بُعث ليحيي ما بالأمة من موات ويعيد لها عنفوانها وعزّتها. في الغد أعارني كتابك “نظرات في الفقه والتاريخ” ذا الغلاف الأزرق النّيلي. طبعا كان يصعب على مراهق مثلي أن يفهم عنك ما تقوله في كتابك التأسيسي ذاك، ولكنني أخذته معي إلى المدرسة احتفاء بمن قيل لي عنه أنه معارض سياسي كبير، وأنه كتب رسالة قوية إلى الملك الحسن الثاني، وأنه أدخل السجن مرات، وأنه الآن في “إقامة جبرية” في بيته بسلا جراء مواقفه السياسية الجريئة.
هكذا قدموك لي. قدموك باعتبارك معارضا سياسيا مُهاب الجانب، أسدا جسورا، وبعد ذلك مفكرا وكاتبا، ولم أعرف أنك أكبر من ذلك بكثير إلا بعد أن صاحبتُ بعض تلامذتك عن قرب، واطلعت على كتابك “الرجال”، وهو الجزء الذي طبعتَه مُستلاّ مختلسا من موسوعتك التربوية “الإحسان”. ومن يومها وأنا أتابع أخبارك، وأقرأ كل ما يصل يدي من كتاباتك سواء الفكرية أو التربوية أو السياسية… وقبل ذلك وأثناءه وبعده أصبحتُ ـ بفخر لا حدّ له ـ تلميذا في مدرستك.
استمعت للعديد من دروسك المسجلة في الكاسيت أو الفيديو، وخاصة سلسلتي: دروس في المنهاج النبوي، وسلسلة العدل والإحسان، وتألمتُ لدمعتك في الجزء العاشر من هذه السلسلة عندما سُقتَ الكلام عن مقتلة سيدنا الحسين وأهل بيته في كربلاء. استمعتُ إليك ـ يومها ـ في منزل أحد أصدقاء المدرسة عبر أجهزة عتيقة، وبصوت منخفض جدا، لأن ذلك الصديق كان يعتقد بأن الأمر فيه خطورة شديدة، ولا نريد أن يطّلع أحد على فعلنا هذا. أتذكر أن أحد الذين التحقوا بنا بعد ذلك، وبعد أن استمع لـ”شريط الصدق”، والذي ـ إن لم تخني الذاكرة ـ فسّرتَ فيه ـ من جملة مضمون الشريط ـ بعض الآيات من سورة الواقعة، أتذكر أنه تخلّى عن صحبتنا لأنه اعتبر أن هذه الطريق خطيرة ـ ليس سياسيا، بل تربويا ـ لأنه ليس “صادقا” كفاية، وبالطريقة التي عبّرت عنها في درسك.
رأيتك – لأول مرة – واستمعتُ إليك بشكل مباشر في مسجد بنسعيد المجاور لبيتك بسلا، وكان ذلك يوم 15 دجنبر 1995 عندما خرجتَ لصلاة الجمعة فيما سمي يومئذ بـ”رُفع الحصار، لم يرفع الحصار”. وقفت ـ حينها ـ خطيبا وواعظا ومبينا وسط الجموع الغفيرة التي حجت من مناطق شتى من البلد لتراك وتسمع منك، وتتأكد من الخبر المشاع حول رفع الإقامة الجبرية عنك.
وصلتُ، رفقة أربعة أصحاب، عبر القطار، وكانت المرة الأولى التي أركبه. ولغفلتنا وسذاجتنا وقلة خبرتنا وصلنا قبل الفجر بكثير، ولا أحد منا أبدا سبق له أن زار سلا، وحيّك السلام… كنّا شبابا كاملي الحماسة والعنفوان…وقبل ذلك كنا محبيّن صادقين في محبتنا. تجوّلنا طويلا في شوارع باردة وخالية إلا من بعض سكان الليل، وصادفنا بعض الناس الذين يخرجون إلى عملهم في ذلك الوقت، وكلهم كان يتفاجأ بنا ـ عندما يعرف أننا غرباء ـ وينصحنا بالتوجه إلى أماكن آمنة، فلَيلُ سلا خطير.. ولكننا لم نهتم، إلى أن عثرنا على المسجد مع صوت آذان الفجر.
بعد صلاة الجمعة وقفتَ وسطنا بابتسامتك الحانية، وببنيتك الضعيفة، ولحيتك التي اشتعلت شيبا، وبسلهامك الأحمر القاني. كنتُ قريبا جدا منك، ولكني لم أتذكر من كلمتك تلك سوى القليل: اعتذارك من عمّار المسجد، ووقوفك عند بعض الآيات من سورة النجم، وقولك: “نحن لا نريد عفوا من أحد” كرد فعل عن استثنائك ومعتقلي الجماعة مما سمي بـ”العفو الملكي”. كنتُ منشغلا عما تقوله بالنظر إليك. غريبة تلك اللحظة، وإحساسي بها لا يزول، ومخزونها لا ينفذ إلى حدود اللحظة: أي هدوء، وأية طمأنينة، وأي خشوع. كنتُ أمام رجل، السلطة والصحافة يقدمونه بصورة مختلفة تماما عن تلك التي أراه عليها الآن؛ رجل غاية في البساطة، ولكنهم معذورون، فبساطته ـ بالفعل ـ ذات هيلمان وهيبة.
قرأت الكثير من كتبك، وأعدت قراءة بعضها مرارا، وفي كل مرة كنت أكتشف جديدا وأفهم عنك كثيرا، تبعا لازدياد معارفي وارتفاع منسوب الوعي لدي، وقبل ذلك تبعا لتدرج إحساسي وتشربي من معين محبتك وصحبتك.
قرأتُ المنهاج النبوي، وتنوير المؤمنات، والعدل، وكل كتاباتك الحوارية والسياسية. قرأت حوارك مع فضلائك الديمقراطيين، وكان هذا الحوار بمثابة قصة موت معلن، ضمّنتُ حكايته في مقال نشرتُه في مواقع إلكترونية. كتبتُ الكثير عنك وعن مكتوباتك: كتبتُ حول محنة العقل المسلم كما تصورتَها، وعن الفكر الماركسي وطروحاته باعتبارها تحديا للفكر الإسلامي المعاصر. كتبتُ عن القرآن والنبوة، وعن سوء الفهم الذي يلاقيه خطابك عند الحداثيين وسبب ذلك. ولكني كنت ـ ومازلت ـ شغوفا بكتابك “الإحسان”؛ لقد قرأته كاملا ـ بجزأيه ـ أكثر من خمس مرات، ولا أملّ أبدا من العودة إلى بعض مقالاته وفصوله بشكل دائم، بل وإن أياما لتأتي عليّ أضعه قرب رأسي فيكون آخر ما أطالع في يومي. وإنه ـ تالله ـ لو وُضعتُ ـ كما يقال عادة ـ في معتزل، وخيّرتُ أن أحمل معي كتابا بشريا واحدا ووحيدا لاخترته وبدون تردد. وها أنا الآن ـ مثلا ـ في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها الإنسانية جمعاء بسبب وباء “كورونا”، أضع ما بيدي من كتب وتصانيف لأجلس بين يديك ـ كعادتي دائما ـ تلميذا … وتلميذا فقط. ألم يكن أحب الكتب إليك؟ ألم تكتبه في جوف الليل ـ تعبُّدا ـ بدمعك ودمك. كنتُ دائما على أمل أن تكون قد كتبتَ فصولا من سيرتك الذاتية، فما أفيدها، وما أجملها لو وجدت! ولكنني ـ في مقال ـ اعتبرتُ كتاب “الإحسان” سيرتك التربوية… فهل تراك توافق؟
للأسف، بدأتُ تجربة الكتابة الحقيقية وانتظمت فيها بعد وفاتك بسنتين، وكنتُ قادرا على فعل ذلك وأنت بيننا من سكان عالمنا، ولكنني تهاونتُ فدفعت الثمن. فها أنا أعيش حسرة كبيرة؛ حسرة عدم اطلاعك على ما أكتب وأنشر، لمعرفتي بفرحك الكبير واحتفائك بتلامذتك الذين ينبغون ويصبحون من أهل القلم! فكم حرصتَ في “لقاء الكَتَبَة”، الذي كنتَ تعقده بإشرافك المباشر في بيتك في سلا، على تحفيزنا وتوجيهنا ودفعنا للكتابة والنشر. وكم وزّعتَ علينا من عناوين وقضايا. وكم من مراجع ومصادر مددتنا بها. وكم من منهجيات حققتها معنا… فماذا أنجزنا من ذلك… وماذا حققنا؟
من آخر ما قرأتُ لك ـ أيها العزيزـ آخر ما كتبتَه زمن حياتك؛ أقصد وصيتك. فبماذا يمكن، يا ترى، أن يوصي “عالمٌ، عارفٌ، مُربِّ” مُحبّيه وتلامذته وقد استشعر دُنوّ أجله بعد عمر طويل قضّاه كلُّه في التعلّم والتعليم والبحث والتوجيه والتربية والتنظيم والتأليف والسياسة، وهو يعرف ويدري أنه مصحوبٌ وصوتُه مسموع؟ رجل طوّفَه تفتيشُه عن الحق والحقيقة بين شعاب المعارف والفكر والفلسفة والفنون والتجريب إلى أن دُلّ على طريق خطرة قطعها – بتوفيق الله – بثبات بمعية مصحوب حتى”أُذِنَ” له أن يَدلّ بدوره على الله وعلى الطريق إليه، وأن يستنهض الراقد ويستحث الفاتر، وينادي ذوي الهمم العالية إلى مأدبة الله. كما عبّر عن ذلك صراحة في كتابه “الإحسان”.
لاشك أن الأولويات تزاحمت عليك ـ سيدي ـ وتشابكت أمامك، وشاغبت بعضها على بعض، خاصة وأنك عشت ـ وستترك “جماعتك” ـ في زمن تسيطر فيه الأنانية الفردية والتكالب والتهارش والأشر والبطر والاستبداد والتخلف، وما شئت من الأمراض النفسية والاجتماعية والسياسية التي تمسك بتلابيب الفرد المسلم ومجتمعه.
ولكيلا يحصل ذلك، قدمت – كما قلتَ في أول وصيتك المنظومة – “عُصارة عُمْرٍ مضى، تَصَرّم في النُّجْح والمَبْأس”.
عندما قرأتُ وصيتك ـ سيدي ـ عشتُ معك لحظات كتابتها، أو هكذا خيّل لي… خيّل لي أننا نعيش ذاتَ ثلث أخير من ليلة حِجّيّةٍ من عام 1422هـ/2001م بصحبتك بعد أن رُفعت عنك الإقامة الجبرية، وقد دامت عشر سنوات، وبعد أن كتبتَ رسالتك إلى ملك المغرب الجديد، وعنونتها بـ”مذكرة إلى من يهمه الأمر”، حددت فيها موقع جماعة العدل والإحسان وموقفها مما سمي حينها بـ “العهد الجديد”، وأعلنت بصراحة وبصرامة أنه دائما وأبدا “الإسلام أو الطوفان”، وأنه لا شيء استجد يجعلك تعيد النظر في رؤيتك وتوجّهاتك. وبعد أن التفتَ خلفك فسَرّك ما وفقك الله لبنائه وإنجازه، فنراك وقد جلست ـ كعادتك ـ لوردك في التأليف والكتابة، هذه المرة، يبدو لكي تضع للنهاية نقطةَ ارتكازٍ شديدةَ الوضوح حتى تحميَ ميراثَك من الضياع، أو من سوء فهم مُحَرّف. وكذلك كان؛ لقد افترشت حصيرتَك وقعدت تسطّر في رضًى نادرٍ وصيَّتَك، نثرا ونظما، ثم تسجلها بصوتك، هكذا خُيّل لي. وما ظنُّنا بوصية رجلٍ من طينتِك وقد تجاوز الثالثةَ والسبعين من عمره، إنها بدون أدنى شك ستكون وصيةَ مُحبّ مودّع… كتبها ببال مرتاح وقلب مطمئن!
بعد تنقيب وتفتيش مُضن قد نصادفك في نتف قليلة جدا من كتابك “الإحسان” تشير إلى نفسك بطريقة مباشرة باعتبارك مرشدا “دالا على الله”، أما أن تمنحنا مؤشرا يكشف ذلك في عنوان إحدى كتبك فهذا يحصل لأول مرة، ومع ذلك فلن نعرف ذلك إلا بعد وفاتك، لأن وصيتك حرصت على نشرها نثرا ونظما في الوقت الذي كان فيه الناس يبكونك ويُؤَبّنونَك في أولى ذكراك.
إن القارئَ المهتم، وأكثر منه التلميذ المحب، لَيدركان جيدا أن دال “نصيحة” ودال “ياء المتكلم” مشحونان هنا في “وصيتي” بزخم ثرّ ثري نادر من السياقات التاريخية، والمعارف، والسلوك، والمدافعة، والعطاء المتعدد الاتجاهات والأبعاد، إنهما يلخصان ـ بحق ـ سيرة عالِم مُربِّ ينتظر – في هدوء المتيقّن- أن يَعترفَ العالمُ به إماما ومجددا.
أما المُوصَى فهو عموم المسلمين، وخاصة المؤمنين العاملين في حقل التجديد الإسلامي، ولكن نظرةً خاطفة على أهم القضايا المطروحة في وصيتك تجعلنا نجزم بأنها موجهة أساسا ـ وبالدرجة الأولى ـ إلى أبناء جماعة العدل والإحسان وبناتها في المغرب، وكذا المنتمين لنفس المدرسة الفكرية – التربوية المنتشرين في بلاد عديدة. وهذا ما سنعرفه عند الوقوف عند أهم إشكالاتها وأسئلتها.
كتبتَ ـ سيدي ـ وصيتك الأخيرة وفي ذهنك ـ حسب تقديري ـ خمسة أهداف معلنة، وسادسة مضمرة. وفيها ينسجم الهمّ الفردي بالسلوكي الإحساني الجهادي بالغاية الدعوية بالشواغل التنظيمية بالاستشرافات المستقبلية دون أن يشاغب أحدها على الآخر أو يقصيها.
فمرماك الأول – كما صرّحت في أول سطر – أن يٌترَحَّمَ عليك، وتُذكّر بدعاء بينما أنت ثاوٍ في قبرك وقد انقطع عملك إلا من الثلاث المذكورة في الحديث. بينما قصدك الثاني أن تتّبعَ سُنة حبيبك الذي ألحّ على كل مسلم “له شيء يوصي به” أن يسارع في كتابته. في حين هَدَفت ثالثا أن تُشهِد قُرّاءَك ومستمعيك على عبوديتك لله واتباعك لسنة نبيه وافتقارك لعفو الله ورحمته. ورابعا إلى ترك جذوة المحبة والصّلة مُتّقِدَةً بينك وبين تلامذتك من سكان الأرض رغم برازخ الموت. بينما قصدت خامسا أن تُذكّر – والتذكير إشارة واختصار – بخلاصة ما ناديت به في حياتك وعملت على بنائه. أما غايتك السادسة فلكي تنوّرَ – وللمرّة الأخيرة بشكل كتابي – فهمَ تلامذتك حول أمور في التصور التربوي للجماعة، وخاصة ما ارتبط بمفهوم الصحبة وعلاقتها بمفهوم الجماعة. أما المُضمر الرئيس فهو تأشيرك عن انتهاء مرحلة وبداية أخرى؛ فبرحيلك ـ سيدي ـ رفعت الجماعة شعار “الصحبة في الجماعة”… أما كيف يتم تدبير هذا الشعار بشكل فيه نوع من التفصيل المفضي إلى رفع سوء الفهم الممكن حدوثه، فذاك ما ننتظر بسطه من قبل أقرب تلامذتك إليك.
أوصيتَ – رحمك الله – بما أوصى به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ بتوحيد الله تعالى، وبر الوالدين، والتميز عن المشركين، وإقامة الدين والاجتماع عليه، وبالشورى في الأمر الخاص والعام، وبأن لا نترك عوامل التضليل والفساد تغتال الفطرة فينا، وبالابتعاد عن الفواحش وعلى رأسها التهجين الثقافي والتدمير الأخلاقي، وأن لا نغتال النفس التي حرم الله، وأشد صورها أن يقتنع الإنسان بأنه حيوان متطور لا معنى لوجوده ولا لحياته سوى الرّتع والعبث، وألا نقترب من مال اليتيم، وأن نوفّي الكيل والميزان بالقسط، وأن نعدل ولا نحابي في الحق، وأن نفي بعهد الله، وأن نتّبع صراطه المستقيم، وأن لا نرجع بعدك نخوض في الخلاف المفرق المشتت، وأن نحذر من المسيح الدجال، وأن نمسك عن دماء المسلمين وأعراضهم، ثم أوصيت خاصة بالصلاة والنساء ودعاء الرابطة، “فلا يُبطّئنّنا عنه مُبطّئٌ، ولا يشغلنا عنه شاغل”.
أما صاحب الهمة اليقظة فقد خَصَّصته بوصية “ألا يكون له من دون وجه الله عز وجل مطلب يحجبه عن الله (لأن) طلب الثواب والأجر والجنة شرع من الشرع. وإرادة وجه الله، والسعي إلى مرضاة الله بما يرضي الله ويقربنا إلى الله مرمى الهمم العالية، بشرط العمل الدائب والنية المتجددة”.
نكاد نجزم – بل نشدد في الجزم – بأن أهم قضية تهمّمت بها في نصيحتك الأخيرة هي تلك المتعلقة بالمفهوم المركّب “الصحبة والجماعة”، وكذا نوع العلاقة التي ينبغي أن تربط طرفيه. فلماذا يا ترى؟
لخوفك – أولا – من انفصالهما، كما حدث ظُهرَ تاريخنا، وما جرّه علينا ذلك من ويلات مازالت آثارها سارية إلى يوم الناس هذا. ولخشيتك – ثانيا – من أن يستقيل أحد تلامذتك أو أكثر بـ”شيء” لنفسه، فيرفع “علَمه”، ويدعو لـ”طريقته”، فيُضيّع من ثَمَّ ميراثه – رحمه الله – وتتشتت مدرسته.
توقّفت أولا عند ثلاثة أمور اعتبرتها حاسمة: اقتران العدل والإحسان في كتاب الله، وفي مشروع الجماعة فلا مجال للتفكير في فصلهما. ثم التحذير من أن ينْجَرَّ تلامذتك لإقامة دولة العدل وينسوا السلوكَ لبلوغ مراتب الإحسان، أو يفرطوا فيه. وأخيرا التأكيد على أن المدخل الوحيد والأوحد لهذا السلوك هو “صحبة تفتح أمامك المغاليق، وتحدو بركبك إلى عالم النور والرقائق”.
ثم أعلنت – كما سبق الذكر – عن انتهاء مرحلة وبداية أخرى في حياة جماعة العدل والإحسان؛ الأولى تميّزت بحضور مرشد مصحوب مُسلِّك، رجل فرد. بينما ستتَّسمُ الثانية بتوزُّع أنوار هذه الصحبة وبركاتها “في الجماعة”، ففي أهل العصر كل المُبتغى والطِّلْبَةِ، وهذا ما عنيته تماما في وصيتك المنظومة عندما قلت:
مع المحسنين اتخذ صحبة.. وأحسن برفقتهم، ولا تسي.
فهم، إن تقفّيت خطوَهم.. دليلك للمطلب الأقدس.
إلى الله تسعى ركابهم.. فحِبَّهم تنجُ لا تُبْلس
تفز معهم برضا الإله.. ومن نور قلبهم تقبس.
فإحسان الرُّفقة، وصحبة المحسنين، ومحبتهم، واقتفاء أثرهم، والسعي في ركابهم، والاقتباس من نورهم، والعمل مجتمعين على الحفاظ على ميراث مرشدهم، فيه من “الأرزاق المعنوية والسلوكية” ما يعوض عن الغياب الجسدي لـ “المرشد الرجل المفرد”.
وماذا عن توصيتك لتلامذتك في بداية وصيتك بأن “لا تحبس الصّلَةُ برازخَ الموت”؟ أكيد أن “الصّلةَ” في سياق الكلام هي نوع من “الصحبة”، هذا لا نقاش فيه! ولكن ما درجتها؟ وما وظيفتها؟ هذا ما يحتاج إلى تفسير حقيقي وتوضيح من قبل تلامذتك الأوائل الذين صحبوك عن قرب، وتشرّبوا المعاني صافيةً، والذين يمتلكون ـ أكيد ـ من الفهم والتقييدات الشفوية ما ينوّرُ غموضَ هذه العويصة ويُضيئها.
هل هذا يفيد أن المفهوم المركب “الصحبة في الجماعة” عوّض مفهوم “الصحبة والجماعة” أم كمّله؟
في الصفحة 18 من وصيتك عَهِدت بهما معا، وشدّدت في ذلك، وأكّدت على تلامذتك أن لا يفتروا من التّوجّه إلى الله تعالى بالتضرّع والدعاء كي يحفظَ وحدتَهما واتحادَهما. إن أولويةَ كلٍّ من المقولتين مختلف، إن فهمت عنك، فالتركيز في “الصحبة والجماعة” مُنصَبٌّ على وحدتهما وعدم افتراقهما. بينما التّشديد في “الصحبة في الجماعة” قائم على كون سر الصحبة لم يسلّم لرجل فرد بعينه بل بُثّ في “الجماعة” التي أصبحت ـ من ثَمَّ ـ الوارثَة والسّاهرة على حفظ الميراث، وهذا ما يُعد بحق ـ بالإضافة إلى أمور أخرى ـ تجديدا حقيقيا في “مدرسة السلوك التربوي الجهادي”.
سيدي، وأستاذي
صباح الثالث عشر دجنبر من عام 2012، وكان الخميس من أيام الله، كنتُ متوجها – كعادتي – إلى العمل رفقة أحد زملائي، لا أدري لم أحسست أن الجو حزين… لا أدري.. ووالله إني لصادق… وقد عبّرت له لحظتها عن شعوري. عندما وصلت المدرسة، وقبل أن أبدأ حصتي الأولى اتصل بي من يخبرني بتوديعك عالمنا والتحاقك بالرفيق الأعلى. غريب خبر وفاتك سيدي، لم يكن صادما لـ”التنظيم” كما توقع الكثير من المراقبين، الذين أكثروا الكلام عن مستقبل الجماعة بعدك. وأنت – رحمك الله – كنت واع بهذا البَعد، وكثيرا ما تحدثتَ عنه في لقاءاتك. كنت حكيما في واقعيتك، منتبها لخطورة الغياب المفاجئ لرجل مؤسس من طينتك. من أجل ذلك أعددت بهدوء – رفقة أعضاء مجلس الإرشاد – لتلك المرحلة التي تنقسم فيها تنظيمات، ويضيع ميراث، ويستقلّ تلاميذ، وتُرفع أعلام. وبالفعل انتقلت الجماعة إلى “الصحبة في الجماعة” بسلاسة أثارت غيظ الكثيرين.
عندما سافرتُ إلى الرباط لحضور تشييعك لمثواك الأخير، وقفتُ وسط جنازة مهيبة تليق بك. وخاب ظن السلطات التي كانت تتوقع من الجماعة أن تحولها إلى “مناسبة سياسية” تبرز فيها مظلوميتها، فتضيع من ثم هيبة اللحظة وقدسيتها، ولكن جنازتك كانت هادئة هدوء المحيط. واريناك في روضتك، وعدنا إلى بيوتنا سالمين… ومطمئنين على مستقبل “مدرستنا” وميراثها.
غادرت دنيانا ـ سيدي ـ في شموخ، دون أدنى انحناء أو انكسار. بقيت واقفا إلى آخر رمق، لم تتنازل ولو قيد أنملة عما كنت تعتبره أصولا وثوابت. وهذا لعمري نادر في تاريخنا، في شقه المتعلق بالخصومة الأزلية بين العلماء والسلطان.
قرّ عينا أستاذنا، فتلامذتك ومحبيك على العهد.
الله يعطيك حتى ترضى