شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يَهبُها الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن لله في أيام دهره لنفحات يتفضَّل بها على عباده بالطاعات والقربات، ويتكرَّم بها عليهم “فمن قَبِلها غنم”.
فالمتدبر للقرآن الكريم يرى أن الحديث عن الإيمان الصادق، يقترن به الحديث عن العمل الصالح في عشرات الآيات، قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) 1.
كما يبشر المولى عز وجل في كتابه العزيز من آمن وعمل صالحًا بالعطاء الذي لا ينقطع خيره، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 2.
ومن رحمته سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لنا ما نصنع في شهر شعبان ليقربنا إلى المولى عز وجل. فقد جاء عند أحمد وغيره رحمهم الله وصححه ابن خزيمة “عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنهم قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ”.
فلا ينبغي لنا أن نغفُلَ عن الله حينَ يغفُل الناسُ، بل لا بُدَّ أن يكونَ المؤمن مُتيقظًا لربِّه سبحانه وتعالى غيْر غافلٍ، فهو المقبلُ حالَ فِرارِ الناس، وهو المتصدِّقُ حال بُخْلِهم وحِرْصهم، وهو القائمُ حالَ نومِهم، وهو الذاكرُ لله حالَ بُعْدِهم وغَفْلَتِهم، وهو المحافظُ على صلاته حالَ إضاعتهم لها، وهو المبلغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حالاً ومقالا أثناء صمتِهم.
نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلم يريد من خلال كلامِه أن ينبِّهَ الناسَ جميعًا إلى أهميَّة عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، بل إنَّه صلى الله عليه وسلم بيَّنَ الثوابَ العظيم الذي جعلَه الله لمن يذكره في مواطنِ غفلة الناس، ومن المواطن التي يغفُل الناسُ فيها عن ذِكْر الله موطن السوق.
واسْمعْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فقال: لا إله إلاَّ الله وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحمْد، يُحْيِي ويُمِيت وهو حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِه الخَيْرُ وهو على كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتبَ الله له ألفَ ألْف حسنَةٍ، ومَحَا عنْه ألْفَ ألْف سيِّئةٍ، ورَفَعَ له ألْفَ ألْف درَجَة” 3.
ولما كان شهر شعبان مقدمة لرمضان – ولا بد في المقدمة من التهيئة – شرع فيه من الصيام وغيره من القربات ما يهيئ القلوب، ترويضا للنفس وتأهبا واستعدادا لاستقبال شهر رمضان العظيم، تخليصا للطاعة والعبادة لله رب العالمين.
وعى الصحابةُ والتابعون -رضي الله عنهم- مكانةَ التجارة الرابحة، فكانوا يهتمون بهذا الشهرِ اهتمامًا خاصًّا؛ لِمَا عرفوا من نفَحَاته وكَرَاماته، فكانوا ينكبُّون على كتاب الله يتلونه ويتدارسونه، ويتصدقون من أموالهم، ويتسابقون إلى الخيْرات، وكأنهم يُهيِّئون قلوبَهم لاستقبال نفحات رمضان الكُبرى، حتى إذا دخلَ عليهم رمضان دَخَلَ عليهم وقلوبُهم عامرةٌ بالإيمان وألسنتُهم رطبةٌ بذِكْر الله، وجوارحُهم عفيفةٌ عن الحرام طاهرةٌ نقيَّةٌ، فيشعرون بلذَّة القيام وحلاوة الصيام، ولا يَملُّون من الأعمال الصالحة؛ لأنَّ قلوبَهم خالطتها بشاشةُ الإيمان وتغلغَل نورُ اليقين في أرواحِهم.
فعن لؤلؤة -مولاة عمار- قالت: (كان عمارُ رضي الله عنه يتهيَّأ لصوم شعبان كما يتهيَّأ لصومِ رمضانَ). وقال سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي التابعي -رحمه الله تعالى- عندما رأى قومَه إذا أقْبَلَ عليهم شهر شعبان تفرَّغوا لقراءة القرآن الكريم: (شهرُ شعبان شهرُ القُرَّاء). وكانَ عمرو بن قيس إذا دَخَلَ شهرُ شعبان أغْلَقَ حانوتَه، وتفرَّغ لقراءة القرآن في شعبان ورمضان.
ولهذا كان سلفُنا الصالح يستحبون إحياءَ الأوقات المباركة منها ما بيْن العِشَاءَين (المغرب والعشاء)، ويقولون: هي ساعة يغفُل الناسُ عن طاعة الله.
أشار الإمام ابن الجوزى رحمه الله إلى أهمية اغتنام الأوقات الفاضلة في قوله: (واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظمة القدر لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دل على حرصه على الخير. ولهذا فضلُ شهود الفجرِ في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت، وفضلُ ما بين العشاءين وفضلُ قيام نصف الليل ووقت السحر) 4.
العبد العاقل، هو الذي يأخذ من حياته لمماته، ومن دنياه لأخراه، فالدنيا مزرعة الآخرة، وهي ساعة، فاجعلها طاعة، ومن رحمة الله تعالى علينا أن جعل لنا مواسمَ، فيها نفحات لمن يتعرض لها ويغتنمها، يفرح بها المؤمنون ويتسابق فيها الصالحون، ويرجع فيها المذنبون، ويتوب الله على من تاب، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لسانُ حالهم يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ 5.