ما بين رجب ورمضان، يطلّ شعبان كجسرٍ روحي يمتدّ بين المقدّمة والذروة، بين التهيئة والاكتمال، بين السعي والمقصد. شهرٌ يغفل عنه الناس، لكنّ قلوب العارفين تدرك سرّه، وتوقن أن الأعمال فيه تُرفع إلى الله، وأن الأرواح تُختبر في صبرها وتُصفَّى في نياتها.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من صيام التطوع في شهر كما كان يفعل في شعبان، وحين سأله أسامة بن زيد عن ذلك، أجابه قائلاً: “ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجل، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم” (رواه أحمد والنسائي). ما أعظمها من حكمة! وما أعمقها من دعوة للتؤدة والتأنّي في عبادة الله! حتى يكون العبد في أبهى حالاته الإيمانية حين تُرفع أعماله إلى بارئها.
التؤدة ليست مجرد بطءٍ في الخطى، بل هي السكينة التي تعصم القلب من العجلة، وهي الطمأنينة التي تجعل العبد يزن أقواله وأفعاله بميزان الحكمة. هي خصلةٌ من شعب الإيمان، وصفة أهل الرشد واليقين، بها يتدرج العبد في مدارج العبودية لله عز وجل، فيحسن التهيؤ قبل الدخول في المعترك، ويتريث قبل الإقدام، حتى لا يُضيع جهده في غفلة ولا يشتت سعيه في عبث.
هكذا كان شعبان عند السائرين إلى الله؛ محطة التؤدة، فيها يتوقف القلب ليستدرك، فيها تراجع النفس زادها قبل الرحلة الكبرى في رمضان. فالذي لا يتأدّب في شعبان قد يدركه رمضان وهو غافل، كما يغفل السائر عن زاده فيخوض سفره خاوي الوفاض.
وليلة النصف من شعبان ليست كأيّ ليلة، إنها الليلة التي يطّلع الله فيها إلى القلوب، يغمرها بعفوه، لكنه يستثني قلوباً شقيت بالحقد، وأرواحاً أثقلها العداء. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يطّلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن” (رواه أحمد والنسائي).
هنا تتجلى التؤدة في أنقى صورها، حين يتأنّى المؤمن في محاسبة قلبه، يمحصه من شوائب الشحناء، ويغسله من أدران الضغينة، حتى يخرج من تلك الليلة طاهراً خفيف الروح، متأهباً لاستقبال رمضان بقلبٍ نقيّ، لا يثقله سوى شوقه إلى الله عز وجل.
إن لم يكن في التؤدة خيرٌ، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الإعداد لشهر رمضان بهذا التدرج الروحي. فمن ذاق حلاوة التؤدة في شعبان، كان صيامه في رمضان خشوعاً لا مجرد امتناع، وكانت تلاوته تدبّراً لا مجرد ترديد، وكان قيامه حضوراً لا مجرد وقوف.
في هذا الشهر، يتعلّم المؤمن أن العجلة في العبادة قد تحرمه من بركاتها، وأن العمل الصالح يحتاج إلى قلبٍ هادئ، يعي مقامه بين يدي الله، فيؤدي حق الطاعة برويّة، ويغتنم فرصة المغفرة بصدرٍ رحبٍ خالٍ من الضغينة.
إنّ شعبان مدرسة، والتؤدة فيه درسٌ عظيم، فكما لا يُبنى البيت على عجل، لا يُبنى القلب على نفحاتٍ عابرة. من أراد رمضان عامراً بالأنوار، فليبدأ من شعبان بتنقية القلب، وبتصحيح النية، وبالتدرج في العبادة حتى يكون في رمضان أهلاً للقرب.
فلنكن من المتأدبين، المتأملين، المتأهبين، حتى إذا حلّ رمضان، وجدنا أنفسنا في رحابه متهيّئين، وقد بلغنا منازل القرب دون تفريط، وسرنا في مدارج الإحسان دون عجلة، وأدركنا معنى العبادة بقلبٍ تخلّص من كل ما يثقله.
هكذا كان شعبان، وهكذا ينبغي أن نكون فيه: نتهيّأ بطمأنينة، نراجع قلوبنا بتأنٍّ، ونتقدّم إلى الله بخطى الواثقين.