الفقيهُ البصريُّ -شاهدُنا في هذه الفقرة- رجُل من الجيل الوطنيِّ الثاني. دخل الوطنية من بابها الواسع: من باب شرف المقاومة البطولية التي زعزعت أركان الاستعمار، رَجُل من طينةٍ نادِرةٍ، وبالأخَصِّ الأبقى الأنقى: رجلٌ تكوّنتْ نفسيته في وسَط قرَوِي سليمِ الفطرة، وفي حِجْرِ أبٍ علَّمَهُ صغيراً الوفاء لدينه وأمته، وعلمهُ كراهية الكافر المستعمر.
ثم تكوَّن عقلُهُ في المعهد الديني بمراكش على مِثْلِ الحُصُرِ التي يُلقِّنُ عليها أمثالُ علماء القرويين ما تلقنه علال الفاسي.
فطرةٌ سلمتْ، وعقل لم تُلَوِّثْهُ التربية المضادة، ورصيد مجيدٌ في المقاومة قبل الاستقلال، وفي مقارعَةِ انحرافات ما بعد الاستقلال، وفي محاولات لإصلاح ما أفسدَه الجالسون على كراسيِّ الاستقلال ممن تفرسَ فيهم الخطابي أنهم لن يكونوا سِوَى نظراءَ للمحتل الأجنبي.
وقضى شاهِدُنا ثلاثة عقود من عُمْر نضجه يطوف في بلاد العرب وأقطار المغرب ببشرَى الوحدة التي لا تزال حُلْم حياته، كما كانت أملَ الخطابي، وكما هي أمل كل مسلم يسمع القرآن ويستجيبُ لدعوة الله عز وجل الأمّةَ وتبشيرَها بأنها أمة واحدة.
قضى ثلاثة عقود منفيّاً مشرداً نظيفا لم يَجْن من عوائد ماضي نضاله إلا السمعةَ الحميدَةَ إن كانَ غيرُه جنَى على الأمةِ بطَائِلةِ ماضٍ نفخت فيه الدعايةُ الكاذبة. وهل تنتظر الهِمم الكبيرةُ جزاءً على خِدمة الواجبِ وطاعة الله إلا من الله. حُكِمَ عليه بالإعدامِ أربَع مراتٍ على أربع «جرائم» ما من تهمة فيها إلا وهي وِسامٌ إضافيٌّ على صدره. ونرجو الله له في العقبى مصير السعداء، ولكل الصالحين المصلحين ممن غرَسوا بالنية المؤمنة فأكلْنَا من غرسهم الحلْوَ والـمُرَّ.