وتتوالى مواسم الخير من الجواد الكريم على عباده المومنين ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
والعاقل اللبيب من يغتنم هذه النفحات الربانية والعطايا الإلهية بالإكثار من الطاعات والخيرات، فيكون بذلك ممن أحبهم الله عز وجل، فهو سبحانه لا يوفق لطاعته إلا من يحب ولا يهدي إلا من ينيب.
ومن بين هذه المواسم شهر عظيم تستقبله الأمة الإسلامية؛ ألا وهو شهر الله المحرم.
هو شهر مبارك كريم، أول شهور السنة الهجرية وشهر من الأشهر الحرم التي قال فيها المولى تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة، 36].
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب في حجته فقال: “ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان” [متفق عليه].
وسمي الشهر محرما تأكيدا لتحريمه، وقد كانت العرب تعظمه في الجاهلية وتحرم فيه الحروب والإغارات، فكانوا يسمونه الشهر الأصم من شدة تحريمه.
ويعتبر الصوم في هذا الشهر العظيم من أفضل التطوع، فقد أخرج النسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: “سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم”.
وهكذا شرف الله تعالى هذا الشهر فأضافه إلى نفسه تعظيما له، فالله لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته. وأيضا إشارة إلى أنه حرمه بنفسه وليس لأحد من الخلق تحليله كما كانوا يفعلون في الجاهلية حيث يحرمونه تارة ويحلونه تارة أخرى.
وأما إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث – بأن محرم أفضل الأشهر فمحمول على ما بعد رمضان، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل”.
أما في قوله تعالى: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: في “كلهن” أي: كل الأشهر، ثم اختص من ذلك أربعة فجعلهن حراما وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة رضي الله عنه: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء.. فعظموا ما عظم الله..” [من تفسير ابن كثير ملخصا].
ولعل أشد ظلم قد نقترفه في حياتنا هو ظلمنا لأنفسنا بإبعادها عن خالقها.. فلنجعل المحرم فرصة للتقرب من المولى عز وجل والإقبال عليه.
ومن فضائل هذا الشهر أيضا أن حصل فيه حدث عظيم ونصر مبين أظهر الله فيه الحق على الباطل؛ حيث أنجى فيه سيدنا موسى عليه السلام وقومه وأغرق فرعون وقومه.. فهو يوم له فضيلة عظيمة ومنزلة قديمة.
وكل عام وأنتم إلى الله أقرب.