فضل الله تعالى أمكنة وبقاعا على أخرى، وفضل أوقاتا وأزمانا معينة على غيرها، وخصها بأعمال وقربات، عظم سبحانه فيها الأجور والثواب، وجعلها مواسم خير وفرص تزود، تتقرب بها الصادقات من ربهن، لينلن أعلى الدرجات، وأعظمها أن يحب جل وعلا عباده؛ في الحديث: “ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه” (1)…
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله في دهره لنفحات وعطايا يومية كاستغفار السحر وجلسة الشروق وما بين الأذان والإقامة ورباط العشاءين، وعطايا أسبوعية كصلاة الجمعة وصيام الإثنين والخميس، وعطايا شهرية كصيام الأيام البيض، وعطايا سنوية كالعشر من ذي الحجة وصيام عرفة وعاشوراء.. محطات إيمانية تؤطر يوم المؤمنة وأسبوعها وشهرها وسنتها، تتصيد فرصها اغتناما لفضلها، فيتقوى إيمانها، وتثبت قدمها في سفرها إلى ربها، فتتذوق حلاوة العبادة، وتتلذذ الطاعة، وتستحث السير في سفرها للقاء ربها، تجدد العزم في كل محطة، وتتزود لكل مرحلة بما يناسب من العمل الصالح.
يعتبر إدراك قيمة الزمان مؤشرا إيجابيا على النجاح والفلاح عموما، وفي حياة المؤمنة بصفة أخص، فإدراك قيمة الزمان وتوظيفه التوظيف السليم مطلب أساس لفلاح المؤمنة دنيا وآخرة. وقد جعل الله تعالى للعبادات أوقاتا معلومة؛ تربية للمؤمنة على الانضباط ومحاربة التسيب، ومما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة عمره فيم أفناه، وكيف تصرف فيه.
ومن أعظم الفرص التي يستدرك فيها العبد ما فاته خلال السنة شهر رمضان الذي ميزه الله سبحانه وتعالى عن باقي الشهور من حيث فضله وأجره وحرمته، ومن حيث ما يرتبط به من معان وأحداث. شهر فرض الله فيه الصيام، شهر تداوم فيه المؤمنات على القيام، شهر أنزل الله فيه القرآن، وحث فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الجود والإحسان، شهر الإقبال على ذكر الله والتضرع بالدعاء، شهر الجهاد والاجتهاد، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر من اعتكف عشره الأواخر نال من الخير الكثير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه” (2).
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون” (3).
والريان يحمل معنيين:
1- كثرة الأنهار الجارية إليه، والأزهار والأثمار الطرية لديه.
2- من وصل إليه يزول عنه العطش يوم القيامة، وتدوم له الطراوة والنظافة في دار المقامة (4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة” (5).
وفي حديث لابن عباس مرفوعا: “لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره” (6).
رمضان شهر الصيام
الصوم والصيام لغة: هو الإمساك. وفي الشرع: إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة، بمعنى إمساك المكلف بالنية عن الطعام والشراب والنكاح من الفجر إلى المغرب.
والصيام واجب بالكتاب والسنة، وهو رابع أركان الإسلام، وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات.
يقول الله عز وجل: يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (البقرة، الآية 183).
ولابد للمؤمنة أن تحرص أشد الحرص على أن تصوم شهرها بنية ترقى إلى درجة الإحسان، وبخلق حسن يرقى إلى أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، تحاول ما أمكن أن تتجنب كل ما يضيع أجر صومها أو يفسده (من كسل وكثرة النوم والقيل والقال، واستغراق الأوقات في تتبع المسلسلات والبرامج التلفزيونية…)، لا نضيع الفرصة فما هي إلا أيام قلائل ونودعه، لكننا نسأل عنه فكل يوم يمر إلا ويقول: “أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد وسأذهب ولن أعود إلى يوم الوعيد”.
وبهمة عالية يجب أن ترقى إلى صوم خاصة الخاصة، فقد قسم الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين الصوم إلى ثلاثة أنواع: صوم العامة وصوم الخاصة وصوم خاصة الخاصة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: “كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم” (7).
الإكثار من الاستغفار
إن شهر رمضان هو شهر الرحمة والمغفرة لقوله صلى الله عليه وسلم: “أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، أتدرون ماذا يستقبلكم وتستقبلون، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله وحي نزل، قال: لا، قال عدو حضر قال: لا. قال: فماذا؟ قال: إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة وأشار بيده إليها” (8).
وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (النساء، الآية 110).
رمضان شهر القرآن والإحسان
للمؤمنة في شهر رمضان حال مع القرآن ليس كحالها معه في غيره من الشهور، فتراها تختم في هذا الشهر القرآن ختمات بعد أن كانت في غيره تختمه مرة واحدة. وتراجع ما حفظت منه، وقد تزيد من رصيد حفظها. وتطلب الخيرية في تعلمه وتعليمه، والمعية مع السفرة الكرام البررة بترتيله وتجويده. وتراها أيضا تجاهد نفسها لتتخلق بأخلاق القرآن وتتأدب بآدابه، تأسيا في كل هذا بحبيبها المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن، واقتداء بالصحابة والصحابيات رضي الله عنهم الذين ما فتر لسانهم ساعة بل لحظة عن قراءة القرآن والعمل به.
ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: “كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن”.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيه سيدنا جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والذكر والقيام والدعاء.
غير أن المؤمنة تفهم الإحسان فهما واسعا ليس كما تعود الناس أن يحصروه في الصدقة والبر والجود، فهذا ليس إلا جزء منه. فهي تفهمه كما ورد في الكتاب والسنة، بمعانيه الثلاثة:
– الإحسان في العبادة: أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك.
– الإحسان في المعاملات: إلى الوالدين والأقربين وإلى الناس وخلق الله أجمعين.
– الإحسان في العمل: بمعنى إتقانه، سواء العمل العبادي أو العادي.
فهذه المعاني الثلاثة تعطينا مواصفات المؤمنة الصالحة في نفسها وخلقها وتعاملها في المجتمع. تعطينا الوصف المطلوب لعلاقات الأمة بربها وبالناس وبالأشياء. كما تفهم الإحسان أيضا بأنه رتبة في الدين، درجة أعلى فيه؛ فوق الإسلام والإيمان، وبأنه غاية الغايات، ومحط نظر ذوي الهمم العالية.
فهو إذا مفهوم للإحسان شامل كامل، والله يحب المحسنين.
ومن الإحسان في الصوم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (9).
رمضان شهر الذكر والدعاء
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا، وَقد حَضَرَ رَمَضَانُ: “أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، فِيهِ خَيْرٌ يَغْشَاكُمُ اللَّهُ فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ وَيَحُطُّ فِيهَا الْخَطَايَا، وَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الدَّعْوَةُ، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ وَيُبَاهِيكُمْ بِمَلائِكَةٍ، فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسَكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ” (10).
إن هذا الشهر هو شهر جد واجتهاد، شهر الذكر والدعاء، شهر قراءة القرآن، شهر فيه ليلة القدر ليلة خير من ألف شهر لا يحرم خيرها إلا محروم، فاللهم سلمنا لرمضان وسلمه لنا وتسلمه منا متقبلا يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) من حديث رواه البخارِي، رقم: 6502.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) علي بن سلطان محمد القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح.
(5) رواه الترمذي وابن ماجة.
(6) أخرجه سلمة بن شيب وغيره.
(7) متفق عليه.
(8) أخرجه ابن خزيمة (1885)، والعقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (3/265)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4935).
(9) رواه البخاري.
(10) أخرجه الطبراني كما في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (2/60).