شهر رمضان ضيف سنوي يحل على المسلمين بالخير والبركات. يفرح بقدومه الكبار والصغار. تفرح به الأسر، وتُشعِر الأبناء بمكانته عند الله عز وجل. وهو فرصة تربوية مهمة للربط بين سعادة الأطفال بالشهر المبارك والمعاني الإيمانية، بشكل يخلق لديهم صورة إيجابية عن هذا الشهر المعظم، ويترك في نفوسهم انطباعا مليئا بالبهجة والفرح بالشعائر الدينية. إنه محطة متميزة لغرس القيم الإسلامية الراقية والأخلاق الحميدة، وتعويد الناشئة على العبادة وفضائل الأعمال، كما أنه فرصة للآباء والأمهات والمربين ليقفوا وقفة تأمل مع تربية أبنائهم ومعالجة الاعوجاج والتقصير.
كل شهور السنة فرص لإيقاظ الفطرة. ولكن شهر رمضان ميزه الله عز وجل بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ 1. شهر تصفد فيه الشياطين، فتصفو فيه الفطرة، لدى الكبار والصغار على حد سواء، ويكون المسلمون مقبلين على الخير، مستعدين لتجديد العلاقة بخالقهم.
نشجع الأطفال في هذا الشهر على الصوم بحسب سنهم وقدرتهم، ونشرح لهم أبعاده الصحية والإيمانية والمجتمعية، شرحا مبسطا تتسع له عقولهم. ونبين لهم أن كل الطاعات لها مكافأة محددة ما عدا الصيام فليس لأجره حدود «إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به». ومما يُشجِّعُ الأطفالَ على الصِّيامِ إيقاظهم لتناولِ السّحور، خصوصا إذا زُيّن بمأكولاتِ شهية يُحبُّونها. نعزز تجاوبهم الإيجابي بالتقدير والثناء، ومدحهم أمام الآخرين، ونكافئهم بالهدايا والجوائز المحفزة. فالتقدير والثناء والعطاء له دور نفسي فعال على الأطفال، يجعلهم يحرصون أكثر على الصيام.
وإذا حدث عدم صيام أحد الأبناء لصغر سنه أو لضعف استعداده، فلنجدد تشجيعه وتحفيزه ولا نواجهه باللوم والعتاب، كي لا يرتبط عنده الواجب بتجربة قاسية فيكره الصيام. والمطلوب معالجة الأمر برفق وحكمة، دون إحراجهم، حتى تنضج العقول الطرية فينضج الإيمان في القلب.
إن التحدي الكبير يتمحور حول كيفية جعل الأجواء الرمضانية فصلا من فصول المدرسة التربوية، لبناء شخصية الطفل إنسانا مؤمنا شاهدا بالقسط. كيف نحوِّل أنظارنا من التركيز على العادات والتقاليد، إلى دمج أبنائنا في الأجواء الإيمانية بالمنزل والمسجد والشارع؟ كيف ننتقل بهم من مشهد رمضاني تطبعه الأجواء الاحتفالية والفرح بأشكال الطعام والحلوى واستهلاك البضائع، إلى زمن العبادة لله الواحد القهار؟
إن المنهاج التربوي الذي تحتاجه الأمة المسلمة لأبنائها، ينطلق من صحبة محتضنة للأطفال برفق ولين ومحبة. ينشؤون في ظلها تربية متكاملة، تعتمد مبدأ التوازن بين القلب والعقل والنفس. تربية إيمانية تجعل الطفل يستشعر مراقبة الله عز وجل، ويتواضع لخَلق الله. تربية تعبَوِيّة تساهم في تغيير المنكر وبناء عمران أخوي زاهر.
احتضان الأطفال وصحبتُهم خطوة أساسية في العملية التربوية. فالأبناء عادة ما يميلون إلى تقليد آبائهم وأشقائهم، فيكونون في هذا الشهر مهيئين للانخراط في صحبة صالحة، مستعدين للاستجابة للفطرة التي فطر الله الناس عليها. ترتفع لديهم قابلية تقويم الاعوجاج أكثر من أي وقت آخر. في الأجواءِ الرَّمَضَانيَّة الرائعةِ تكون القلوب منشرحة أكثر والأجواء مرحة، فتتيسَّر العلاقة التواصلية معهم، ويسهل إنشاء صحبة مربية، انطلاقا من مصاحبتهم إلى المساجد، والمكُوث معهم فيها لقراءةِ القرآنِ الكريم، ويمكن لهذه الصحبة أن تمد لتشمل مجال العمل التطوعي، والجمعوي والرياضي والترفيهي. إن مصاحبة الأبوين أو المربي للأطفال خلال شهر رمضان إلى المساجد يقوي المحبة بين الطرفين، ويخلق الشعور بالثقة بينهما، ويقوي حضورهم في المساجد، منبعِ الإيمان وعاصمتِه. ولا شك أن كثرت ترددهم عليها يجعل قلوبهم تتعلق بها، فيتشربون سكينته وطمأنينته، وتتعلق بها نفوسهم وقلوبهم مع الزمن، فيُقبِلون على الله عز وجل.
أما بالنسبة للفتيات والنساء فصَلاتهن في بيوتهن أولى، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم منع إماء الله مساجد الله متى رغبن في الذهاب إليها. ومصاحبتهن لأمهاتهن أو جاراتهن إلى المساجد يرسخ محبة الله ورسوله ومحبة المصحوب في نفوسهن، ويبني شخصيتهن الإيمانية المتميزة.
وفي هذا الشهر المبارك يسهل على المربي ربط الأطفال بالقرآن الكريم تلاوة وحفظا وتمثلا، سواء في بيوتهم أو في المساجد أو الجمعيات. يتخذونها محاريب لختمات فردية أو جماعية، تكون شاهدا عليهم يوم لقاء الله. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: «يُحبَّبُ القرآن والسنة للنشء… نصل قنوات الفكر والشعور بالنموذج المثالي» 2. يُحبَّبُ لهم كتاب الله عز وجل تلاوةً وحفظا، وتعهدا وتعليما، وتخلقا واقتداءً، حتى يصيروا مع أهل القرآن الذين اختصهم الله لولايته، ويصبحوا مدارس قرآنية متنقلة عبر الأجيال.
ومما يقوي هذه الصحبة الحديث معهم حول أجواء رمضان في الزمن الماضي. فهم يعشقون سماع الذكريات الجملة، وكيف كان الناس يستيقظون على إيقاع الطبول للسحور، وكيف يجلسون لتلاوة القرآن الكريم قبل الغروب، وكيف ينتظرون لحظات الإفطار، ويجتمعون على موائد الطعام، والأَجواء الجميلةِ للصلاة في المساجد، خصوصا صَلاةِ التَّرَاوِيحِ. نجعله حديثا يُشعِرهم أن رمضان شهر العبادة وليس مجرد عادات وتقاليد وطقوس ترتبط بمأكولات شهية.
فالصحبة الرمضانية المباشرة للأبناء طاقة نورانية تجمع القلوب، وتغذي الأطفال تغذية إيمانية وفكرية بما يُصْلِح ويُثمر. تنقلهم من صحبة ساعة إلى الكينونة مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وتوفر لهم البيئة المناسبة لبناءِ الشخصيةِ المسلمةِ شخصيةً متزنة شاهدةً بالقسط، ذات أثر فعال في المجتمع. شخصيةٌ تربط مصير الطفل المؤمن الصالح بمصير الأمة في الأرض.
وعادة ما ينظر الأطفال إلى أنفسهم على أنهم كبار، ولذلك يستحسن أن ترتكز الصحبة على المشاركة؛ إشراكهم في تقديم الخدمات، بدأ بالخدمات المنزلية المطلوبة خلال هذا الشهر المبارك، مرورا بتقديم الطعام للجار الفقير، وصولا إلى العمل التطوعي بالحي، وتقديم الخدمات للمجتمع، ولدين الله في الأرض. فالشعور بالمشاركة والتعاون يعزز مشاعر تقدير الذات، وتحمل المسؤولية؛ فحمل الأطباق مثلا وإحضار الطعام والمشروبات، مع أنه عمل بسيط، لكنه يجعلهم يشعرون بأهميتهم كأبناء مسلمين، وأهمية ما يقومون به من أعمال الخير ضمن عبادة الله والتقرب إليه. فالمُربي يحرص على مداومة الأطفال على القيام بالأعمال الخيرية حتى يصبح العمل التطوعي جزءاً لا يتجزأ من شخصيتهم، وذلك بمشاركته شخصيا في أي عمل يقومون به، لتنمية الحس التطوعي لديهم، بما يضمن عدم اختزال الأجواء الرمضانية في طقوس وأعراف مقلدة. وغالبا ما يستمتع الأطفال بالمصحوب المربي ويستمعون له، فتتشرب قلوبهم من الاحتضان الدافئ وتنهل منه نفوسُهم المتعطشةِ إلى الإيمانَ. وإذا بالفطرة الطرية تسمع وتتشرب وتقتدي فتتمثل وتتشبّه بالجيل الفالح، جيلُ طفولةِ الصحابة وأبناء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
ولاشك أن مساهمة البيئة الاجتماعية والفكرية والتربوية في رسم خريطة السلوك الإيماني لدى الأطفال مؤثرة جدا، وفي مقدمتها مساهمة مؤسسة الأسرة، فهي تحتل الصدارة في هذا الإطار، و تترك بصماتها بقوة في نفوس الأبناء. ولا شك أن اجتماع الأسرة على مائدة الطعام أثناء السحور والفطور يضفي رونقًا خاصًا على الحياة في هذا الشهر المبارك. اجتماع يشع الفرحة والسرور بين أعضاء العائلة، ويقوي الإحساس بالانسجام، ويبعث على الود والمحبة. يشعر فيه الأطفال بالفرق بين الأجواء العائلية خلال شهر رمضان وبين بقية شهور العام. ومن ثمراته إقبال الأطفال على الصيام والصلاة وقراءة القرآن وعمل الخير.
ولا يكاد ينفصل زمن الجد لدى الأطفال عن زمن اللعب، خصوصا في السنوات التسع الأولى من أعمارهم. ولذلك نحترم طفولتهم واحتياجاتهم، بل نصاحبهم في اللعب ما أمكن. فلا يجوز إبعادهم عن التسلية والترفيه بوسائل عصرهم، وحسب جنسهم، بدعوى أننا في شهر مبارك يستدعي الإكثار من العمل الصالح. لا نقارن أنفسنا وزمننا بزمن أبنائنا، فنُسْقِط عليهم سلوكا لا يناسب زمنهم. الحاجة إلى المرح والبهجة وسيلة مهمة لزرع الخير في القلوب الطرية ولإبعادها عن السوء إذا تم توظيفها برؤية واضحة. فمن المهم أن يقترن الصوم في حياة الناشئة بذكريات مفرحة وسارة لا تخلو من الطرافة. لذا يمكن استثمار ميلهم للمرح في ألعاب مفيدة تؤدي وظيفة إيمانية، بدأ بتقليص حصص التلفاز، ومرورا بأنشطة متنوعة مثل البحث في الأنترنيت عن آيات وأحاديث في موضوع محبب لهم، وتنظيم مسابقة في السيرة النبوية، وفي حفظ وتجويد القرآن الكريم، وإدماج الأجواء الرمضانية في أحداث قصة صغيرة محددة، والقيام بحملة نشر صور عمل الخير على مواقع التواصل الاجتماعي طيلة شهر رمضان، وإدماجهم في العمل التطوعي. ويمكن إدخال زيارة الأهل والأقارب في هذا الإطار في سياق التنوع لخلق أجواء المرح، وتقوية أواصر المودة بين العائلات، وتعزيز روح التكافل والتضامن الاجتماعي. كل ذلك يقوي الصحبة المربية، وتختزن في ذاكرة الأطفال صورا إيجابية، تُدمَج في بناء شخصيته الإيمانية التفاعلية مع المجتمع، ويكون منطلقا لسلوك مجتمعي مسلم.
وفي سياق اللعب وضمن صحبة محتضنة تنظم أوقاتهم فلا يكون لهوا كله، يُشجعون على فعل الخيرِ تقربا إلى الله عز وجل، ويُبعَدون عن الصحبة السيئة، فينشؤون جيلا صالحا. فلا بد من إرجاع الأمور إلى نصابها ونصابها هو التربية والسلوك النبوي، حيث كانت الصحبة والجماعة لحمة واحدة وكان السلوك إلى الله عز وجل هو عين الجهاد في سبيله.