“وراء كل عظيم امرأة”؛ مقولة لطالما تكررت على مسامعنا، وخلفت سجالات غزيرة في أوساط مثقفينا العرب، بين مؤيد لها ومعارض، رغم أنها ليست قاعدة عامة ولا مطلقة. وإن المطالع لسير العظماء، عبر التاريخ، لا يفتأ يجد أما أو أختا أو زوجة دعمت نجاحهم واحتضنته.
وتاريخنا الإسلامي حافل بنماذج لنساء رائدات، شاركن الرجال في الحياة العامة، وتركن بصمات قوية في صناعة أبطال وعظماء غيروا مجرى التاريخ.
ولعل أروع مثال على ذلك؛ أمنا خديجة رضي الله عنها. فإلى جانب نجاحها في تجارتها، فقد كانت سندا قويا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكفيها فخرا أنها أول امرأة أسلمت وناصرت دعوة الله تعالى؛ بمالها وجاهها ورأيها ومشورتها، فدثرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزملته، عندما أدرك عظم الأمر وثقل الوحي، وأجابته بعبارات خلدها التاريخ “كلا والله لن يخزيك الله أبدا…”، ولها مواقف عظيمة سجلتها السيرة النبوية بمداد من فخر.
وإلى جانب هذا، فقد سطر لنا التاريخ، عبر صفحاته، أسماء عديدة لنساء صنعن على أعينهن رجالا وأعلاما، أذكر من هؤلاء الرائدات نماذج على سبيل المثال لا الحصر:
• صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ربت ابنها الزبير بن العوام، فارس رسول الله، وقد شب يتيما في كنفها، فكانت له الأم والأب، وصنعت منه بطلا.
• أم الإمام مالك إمام دار الهجرة؛ كانت تحثه على طلب العلم، وربته على مكارم الأخلاق والأدب، وكانت تقول له: “اذهب إلى ربيعة وتعلم من أدبه قبل علمه”.
• وهذه أم الإمام أحمد بن حنبل، يقول عنها: “حفظتني أمي القرآن وأنا ابن عشر سنين، وكانت توقظني قبل صلاة الفجر، وتحمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة، وتلبسني ملابسي، ثم تتخمر وتتغطى بحجابها، وتذهب معي إلى المسجد، لبعد بيتنا عنه، ولظلمة الطريق”.
• وهذه ست النعم بنت عبد الرحمان، والدة شيخ الإسلام ابن تيمية، ترسل إليه بهذه الكلمات الخالدة، بعد أن أرسل لها يعتذر عن إقامته بمصر لتعليم الناس أمور دينهم: “والله لمثل هذا ربيتك، ولخدمة الإسلام والمسلمين نذرتك، وعلى شرائع الدين علمتك. ولا تظنن يا ولدي أن قربك مني أحب إلي من قربك من دينك وخدمتك للإسلام والمسلمين، بل يا ولدي إن غاية رضائي عليك لا يكون إلا بقدر ما تقدمه لدينك وللمسلمين. وإني يا ولدي لن أسألك غدا أمام الله عن بعدك عني، لأني أعلم أين وفيم أنت، ولكن يا أحمد سأسألك أمام الله وأحاسبك إن قصرت في خدمة دين الله وخدمة أتباعه من إخوانك المسلمين”.
• وهذه أم سفيان الثوري، العالم الجليل، قالت له وهو صغير: “يابني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي”. فكانت تتعب وتعمل لتوفر مصاريف تعليم ابنها حتى صار عالما.
• وهذه ست الركب أخت الإمام ابن حجر العسقلاني، كانت قارئة وكاتبة، أعجوبة في الذكاء. أثنى عليها وقال: “كانت أمي بعد أمي”. وذكر شيوخها وإجازتها من مكة ودمشق وبعلبك ومصر، وقال عنها: “كانت بي بارة رقيقة محسنة”. وقد رثاها بقصيدة عنها بعد موتها رحمها الله.
• وهذه السلطانة خديجة حليمة هما خاتون، أم الأمير محمد الفاتح، الذي عندما تقرأ عن طفولته، تعلم السر في صفاته التي أهلته لأن يكون نعم الأمير الذي يصنع نعم الجيش. فالسر يكمن في أمه التي ربته، وكانت تأخذه لصلاة الفجر وتريه أسوار القسطنطينية، وتقول له في يقين وثقة: “يا محمد، أنت القائد الذي ستفتح هذه الأسوار. اسمك محمد، وهو ما ينطبق على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنت ستكون نعم الأمير”.
• وأختم أمثلتي من بلدنا المغرب، بلد العلماء والعالمات، بسيرة العالمة رقية بنت محمد بن العربي، أم العلامة المختار السوسي، وزوجة الشيخ علي الدرقاوي رحمهم الله جميعا. قال عنها ابنها: “أول ما أعلمه عن والدتي هذه، أنها هي التي سمعت منها بادئ ذي بدء تمجيد العلم وأهله، وكان كل مناها أن تراني ممن تطلعوا من تلك الثنية”. وحكى عنها أيضا قائلا: “أيقظتني أمي يوما فناولتني كأسا مملوءة ماء وقالت: “هذا الماء ماء زمزم، الذي هو لما شرب له، وهو مظنة الاستجابة. فاجرع منه، وانو في قلبك أن يرزقك الله العلم الذي أتمناه لك دائما”، وكانت سنده الدائم حتى صار عالما.
هذه النماذج ما هي إلا غيض من فيض نساء عظيمات، وهن محظوظات؛ حيث عرفن بعلمهن ونجاحاتهن لانتسابهن لزوج عالم أو أب أو أخ علامة، في حين هناك عالمات وسياسيات وفقيهات وعابدات طواهن النسيان ولم يتحدث عنهن المؤرخون، كما تحدثوا عن الرجال الذين هم صنع أيديهن ونتاج تربيتهن، وذلك بسبب الأعراف والتقاليد الموروثة، ولاستئثار الرجال بكتابة التاريخ، مما حال دون بروزهن بما يليق بمكانتهن.
رحمهن الله جمعاوات، وجعلنا ممن تشرئب أعناقهن لهؤلاء العظيمات، إحياء لذكراهن، وتكملة لمسيرتهن.
بهن يتأكد فعلا أنه بجانب كل عظيم صانعة للعظماء!