كان فتى من الفتيان في قريب الزمان يحمل اسم ثاني الخلفاء الراشدين، وكان محبا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحابهما، أبى أن يعيش في السفوح مع القطيع، أو أن يرعى بذل مع السائمة، أو أن يسكت عن كلمة الحق، أو يداهن الباطل كأنصاف الرجال ولا رجال، أو أن يكون إمعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا ظلم، صدح بالحق في ساحات طلب العلم وحمل لواء التغيير، وأبى إلا أن يكون في مصاف الرجال وأن يحيا وهو يحمل قضية أمة التنوير.
وكان، مجمع الأحباب، أن حدث ما لم يكن له في الحسبان، وما لم يدُر من الكيد أحسب في خلد إنس ولا جان، حين قتل أحد الطلبة الأعوان، وهو حينها بعيد بمئات الفراسخ والأزمان عن عين المكان، فحوكم غيره وكان ما كان، وبعد مرور عقد من الزمان رأى الجلاد المتحدث باسم النظام، أن التهمة لن تكون صالحة مجلجلة إلا إذا ألصقت بفتانا الهمام، حتى يقلم أظافر نبتت بغير إذن النظام، ويقص أجنحة نبتت في تقديره في الظلام، ويقطع صوتا لا يصح أن يرتفع مناديا بمنع الظلم ولا مطالبا بعدل ولا إحسان.
فكان ما كان مما لازال كل حر يذكره… وضع فتانا وراء القضبان، لحولين ثم صارا لما لم يشفيا غليل الظُّلام عقدا من الزمان، رغم انعدام البينة والبرهان، وتناقض شاهد العيان، شاهد وحيد كان طرفا في قضية فتانا الهمام، متهم في القضية ذاتها كان، وفيها بسنتين مدان، وخصما سياسيا لجوجا سبق أن تقدم بشكوى مدنية ضد فتانا وقد كانا من الأقران.
صال الدفاع وجال لصد الظلم ودفع العدوان، لكن النوايا كانت تتوجه بالتعليمات إلى أن يدان، فألقي وراء القضبان لسنين من الزمان، عله يتراجع عن المبادئ أو يهان، أو يكون درسا لمن أراد أن يقول لا للنظام، أو تسول له نفسه أن ينتمي لجماعة العدل والإحسان، فيكون مصيره مثل مصير فتانا اليوسفي الهمام.
أتدرون الذي جرى جمع الكرام؟ ازداد فتانا قوة واشتد عوده وكبر، ولم يؤثر الظلم الممارس على شقه الثاني وأي اهتمام له لم تُعر، فأكملت المشوار بصلابة السيف وقوة الدين الذي تحمله على خطى الكاملة سمِيّتها، فربت الولد وسهرت، وعنت بالبيت فبرعت، ومارست الوظيفة وبهرت، ودافعت عن المظلومين ونصرت، وأتمت كما أتم طلب العلم فكانا عنوانا للوفاء والصمود على المبادئ، والقيم والمواقف، لا تمنعهما العقبات، ولم تعرقل سيرهما القاصد النتوءات، يرفعان الصوت عاليا في وسط الصموت، والرأس عاليا في زمن الانبطاح والخدلان والسكوت، رافضين السير وراء القطيع كالخرفان، أو الإذعان لإغراء الظلمة والأعوان.
ويستمر أيها الأحباب إلى الآن، الاعتقال الظالم، والباطل الغاشم، المبني على دعامة متداعية، وحجة واهية: شهادة متهم على متهم…
ولما كان لكل ظلم غصة، وإن أوقن أن مع النقمة النعمة وأن للبداية المحرقة النهاية المشرقة، فإن معاناة أبناء حرموا حضن الأب، وأسرة تجرعت كأس الظلم حنضلا باحتساب كبير وصبر جميل، لا زالت مستمرة… هو صبر المحتسبين الذي لا بث فيه ولا شكوى إلا لملك الملوك، ناصر المظلوم ولو بعد حين، مفرج كروب المستضعفين، وقاصم ظهور الجبارين، المقسم في كماله بعزته وجلاله: لأنصرنك ولو بعد حين[1].
[1] رواه الطبراني.