تعيش فلسطين وتعيش معها الأمة الإسلامية لحظات امتزجت فيها مشاعر النصر والعزة مع طوفان الأقصى ومشاعر الحزن والأسى على تداعي القوى الاستكبارية على أمة تعيش وهنا وضعفا، كما وصفه الرسول صلى عليه وسلم في حديثه “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلَةُ على قصعتها”. فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغُثاء السيل. ولينـزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوَهن”. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت” 1، وتبقى إمكانية الانبعاث من هذا التردي ممكنة وأكيدة بإذن الله، فهذه الأمة موعودة بالنصر والتمكين متى استوفت الشروط.
فما هذا الداء الذي تمكن من هذه الأمة حتى أرداها ذليلة مستباحة حرماتها منهوبة خيراتها؟ كيف سيرتفع الوهن ويأتي النصر وتعود للأمة عزتها وخيريتها بحملها لأمانة الرسالة والتبليغ عن الله؟ هل هي مسألة عتاد وسلاح أم أن الأمر أدهى وأمرّ؟
أخبرنا من لا ينطق عن الهوى، عليه صلوات ربي وسلامه، أن هذه الأمة ستنحرف عن وجهتها عندما تفقد بوصلتها وتتخلى عن دليلها؛ كتاب الله وسنة رسوله، وتتبع “المحدثات من الأمور، والبدع والأهواء المضلَّة، كما اتَّبعتها الأمم السابقة من اليهود والنصارى” 2، يقول عليه الصلاة والسلام: «لَتَتَّبِعُنَّ سنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» 3، “وما ذكره من الشبر والذراع ودخول الجُحْرِ هو “تَّمْثِيل بِشِدَّةِ الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ وَالْمُرَادُ الْمُوَافَقَةُ فِي الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ لَا فِي الكفر” 4.
إن هذا الداء العضال الذي أصاب الأمة والذي سماه الحبيب عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق الوهن، قد أشار إلى أعراضه في حديث آخر؛ حيث يقول، فيما رواه أبو هريرة: “سيصيب أمتي داء الأمم” فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: “الأشَر والبطر، والتكاثر والتّناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي” 5.
وهذا التردي مردُّه تعلق القلوب بالدنيا والتنافس فيها، ونسيان المقصد الأسمى من خلق الإنسان ألا وهو عبادة الله وحده والاستعداد للقائه، فبقدر ما يتعلق المسلم بالدنيا ويتنافس فيها بقدر ما يستفحل المرض ويتمكن من جسد الأمة، وبالموازاة ينزع الله عز وجل هيبة المسلمين من صدور الأعداء.
هكذا شخَّص الحبيب الداء واصفا أعراضه، مُنبِّها على خطورته، رابطا بين أمراض القلوب وانحطاط الأمة، لنفهم أن عزة الأمة أو ذلتها مرتبطة بما يحدث في القلوب من تعلق بالآخرة واستعداد لها أو تعلق بالدنيا والتنافس فيها.
أما عن تساؤلنا عن النصر وموعده، فآيات الله وسنة رسوله تخبرنا أن موعده قريب، وأنه آت لا محالة متى أدينا شروطه، ونقف على آية جامعة لشرط تحقيق النصر؛ يقول الله تعالى: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ (الآية) [محمد: 7]، فالجزاء من جنس العمل، ولن نكون أهلا لتلقي بشائر النصر في الدنيا وللفوز بالسعادة الأخروية إن لم ننصر دين الله بالكينونة مِن ومع المؤمنين الصادقين الصابرين العاملين الآخذين بأسباب النصر؛ فـ”كمالات العلم، وحيوية العمل، وصدق الإرادة، والصبر على الشدائد في نصر الله، كل هذه أخلاق عليها يعطينا الله النصر” 6.
هي خطوات تفصلنا عن النصر والتمكين؛ إيمان بالله وإصلاح العمل، و”نستلهم إمامنا وقائدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم لنعلم أين يبدأ منهاجه. لأننا إن أخطأنا المنطلق زغنا. ونستلهمه صلى الله عليه وسلم لنعلم أين ينتهي المسار وكيف تُجنى ثمرة التربية الإيمانية لأننا إن لم نعرف الغاية واضحة وانتظرنا ثمرة من كيان يابس تهنا في السير وفي أوهام الأحلام العاجزة” 7.
لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة، ولنا في منهاجه التربوي بديلا أصيلا عما تقترحه النظريات المادية للخروج من هذا الهوان الذي جثم على صدر الأمة لقرون خلت، نرجع إلى السيرة في مصادرها المتعددة؛ بدءا بكتاب الله، نستمد منها “المنهاج النبوي الذي ربى به رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلا قرآنيا من المحسنين لإعادة الشخصية الجهادية إلى قيادة الأمة ولإعادة القيم الإيمانية الإحسانية إلى مكانتها في سلوك الأمة” 8.
يظن البعض أن الأمر يتعلق بالسلاح والعتاد وأن تخلفنا المادي وعجزنا عن مسايرة الغرب في تقدمه الحضاري هو سبب هزيمتنا وعدم قدرتنا على دفع العدوان الصهيوني، وهو تفسير مادي صرف يلغي جانب الغيب وما يرتبط به من مفاهيم تمثل جوهر الدين ولبّه؛ فالعامل المادي “كان عاملا من العوامل يأتي بعدَ فقدنا للوعي الرسالي وبعد تفككنا الغثائي وبعد ما فعله فينا داء الأمم وهو البغي بيننا على مدى قرون طويلة” 9، فلا بد من الجمع بين المقوم المادي وهو الأخذ بالأسباب، وبين المقوم المعنوي وهو إيمان راسخ متجذر في القلوب ووعي تام بأننا حملة رسالة كاملة، نقيمها في أنفسنا ونبلغها للعالمين واثقين بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
والبعض قد أيس من إمكانية انبعاث الأمة من جديد لأن الداء قد استفحل والأمة تلفظ أنفاسها الأخيرة، ويظن أن زمن النصر وزمن الريادة قد ولّى، وأن زمن الصحابة هو من الماضي ولا يمكن إعادته، ولكن “لا يزال أهل الإيمان والإحسان يشكلون إمكانية انبعاث من الموت المحدق خطَرُه، يشكلون وصلة مع تاريخنا الأول، يشكلون جوا معافى من داء الأمم” 10؛ فعلى يقظة القلوب وتجدد الإيمان فيها، وعلى التغيير الشامل الذي يحدث في النفوس، يدور نصر الأمة ويبدأ بناؤها بناء قويا في جميع المستويات على يد قيادة ربانية تجدد للأمة أمر دينها.
وتأتي المقاومة الفلسطينية لتؤكد هذه الإمكانية، فقد رأينا شبابا مسلّحا بالإيمان موقنا بالنصر رغم قلة العتاد وخذلان القريب وتكالب الأعداء، شبابا تعلقت قلوبهم بالله، باعوا دنياهم من أجل آخرتهم، فتخلصوا من داء الوهن، فسَهُل عليهم ملاقاة عدو غاشم متغطرس مدجّج بأحدث الأسلحة وأفتكها، واجهوه بأيادي متوضئة لا تفارق الزناد؛ وصدور قد حوت كتاب ربها فتلته آناء الليل وأطراف النهار، وشعارهم الخالد “إنّه لجهاد نصرٌ أو استشهاد”.
فصبرا فلسطين، صبرا مجاهدونا، فقد أحييتم أمة، فتعلمنا “أن بداية مجد الإسلام تكون بقطع حبال الجاهلية وحسمها، ووصل نسبنا إلى الإسلام بدعم جهود أولي البقية من صالحينا وإشاعة جو العافية من داء الأمم في حياتنا” 11.
صبرا مجاهدونا، فبصبركم ويقينكم بوعد الله، جعلتم الآخرين يبحثون عن سركم، فعلموا أن السر هو انتماؤكم لهذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله لعباده، والذي جاء ليخرج الناس “من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام”.
[2] شرح صحيح البخاري، ابن بطال، 10/366.
[3] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي ﷺ: “لتتبعن سنن من كان قبلكم”، رقم الحديث: 6889، ورواه مسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، رقم الحديث: 2669.
[4] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي، 16/ 220.
[5] المستدرك على الصحيحين، الحاكم، كتاب البر والصلة، رقم الحديث: 7311، وأخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا فِي ذمّ الْحَسَد، وَالطَّبَرَانِيّ فِي المعجم الْأَوْسط، رقم الحديث: 9016 بزيادة “ثُمَّ يَكُونَ الْهَرْجُ”.
[6] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص: 76.
[7] مجلة الجماعة -العدد السابع، ص: 107.
[8] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص: 11.
[9] العدل: الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، ص: 243.
[10] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص: 45.
[11] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص: 45.