في تطلعنا إلى إعادة بناء الشخصية المتوازنة للمرأة، الممتلكة لكل مقومات النجاح التي تؤهلها لتحمل المسؤوليات وتذليل العقبات في سبيل النهوض بهذه الأمة من جديد، لازلنا نمتح من نماذج الجيل الأول من الصحابيات الجليلات، ونستقري ذلك العصر المستنير بنور الوحي، لا نبتغي بذلك التقليد الحرفي لكل الحركات والسكنات، فلكل عصر خصوصيته، وإنما مرادنا ومبتغانا امتلاك تلك الروح اليقظة والمتحفزة للفعل، وتلك الفطرة السليمة التي أهلتهن للفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى ننفض غبار قرون من الانزواء والاستقلال من هموم هذه الأمة. إننا اليوم مدعوات للجلوس في حضرة امرأة عظيمة من نساء ذلك الجيل الأطيب، سجلت بقربها من الله مواقف ترتبت عنها مسؤوليات جسام تحملتها صابرة محتسبة، لم تنتظر جزاء من أحد حتى كانت الجائزة من رب السماء.
إنها أم المؤمنين رملـه بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وُلِدَت قبل البعثة بسبعـة عشر عاماً، أسلمت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش (ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخ أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها)، وقع في مسار حياتها تحول عظيم لم تكن تتوقعه، إذ تزوّجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي في الحبشة فصارت أما للمؤمنين، وقدمت عليه سنة سبع للهجرة. فما قصة هذه المرأة العظيمة؟
هجرتان وابتلاء
تركت رملة بنت أبي سفيان دين قومها مهاجرة إلى الله ورسوله في وقت كان الإسلام فيه غريبا مضطهدا. فكان الذين اعتنقوه يعانون الأمرين من ذويهم وبني جلدتهم، فما بالكم بمن كان أبوها رأس الكفر والأشد إيذاء للنبي الكريم وأصحابه. فكانت الهجرة إلى الحبشة فرارا بالدين وتفاديا لأذى المشركين وطلبا للأمان والسلم.
هاجرت سيدتنا رملة صحبة زوجها عبيد الله تاركة وراءها الأهل والديار والذكريات الجميلة، فكان الزوج هو العزاء عن فراق الأهل والعشيرة. ثم جاءت ابنتها البكر حبيبة إلى الدنيا فصار لصاحبتنا زوج وولد، لكن الفرحة لم تتم. قالت أم حبيبة: (رأيت في المنام كأن زوجي عُبيد الله بن جحش بأسود صورة ففزعت، فأصبحت فإذا به قد تنصّر، فأخبرته بالمنام فلم يحفل به، وأكبّ على الخمر حتى مات…).
ثبات وصبر… ثم فرج
وكانت المحنة… ماذا تصنع امرأة في مثل هذا الموقف وهي في أرض غير أرضها، ولها رضيعة تحتاج إلى من يعولها؟ هل ترجع إلى ديارها بعد ارتداد الزوج وفقده، إذن يا لشماتة قومها فيها! وماذا عساها تقول لهم؟ هل تقول ما أنا إلا امرأة ضعيفة وما كان لي إلا أن أتبع زوجي، وهل للمرأة أن ترى لنفسها من سبيل غير ما يراه زوجها لها؟ كما هو حال كثير من الزوجات اليوم لا دور لهن في هذه الحياة خارج ما يرسمه الأزواج لهن، فإن قال حلو قالت سكر، وإن قال مر قالت علقم، حتى أصبحن نسخة مكرورة من ذلك الزوج الذي لا يفتأ يسأم من العيش مع ظل يقلد كل حركاته وسكناته وهو إنما يريد شريكا يقاسمه أتعاب الحياة وأفراحها، يفعل وينفعل يوجه ويقوم، يشير كلما بدا له الرأي، وباختصار شخص مستقل عن ذاته هو، له شخصيته الخاصة به ومواقفه الإيجابية وآراؤه البانية التي يستفيد منها ذلك الزوج المتعب بأعباء اللقمة وهموم العيش، ويستفيد منه الأبناء، بل وتستفيد منه كل الأمة.
ولكن سيدتنا أم حبيبة امرأة، وإن كانت ككل النساء في التركيب النفسي والجسدي، لكن لا كل النساء يسامينها في القدرة على اتخاذ المواقف الجريئة، فما كان اتباعها لدين الله تقليدا لزوج ولا محاباة لأحد غيره، بل كان استجابة لنداء الله تعالى ولرسوله، وعملا صالحا اكتسبته يدها بكامل إرادتها. لذلك عقدت العزم على أن تمكث بالحبشة مع إخوانها وأخواتها من المهاجرين، متحملة حظها من المسؤولية، ضاربة لكل النساء في كل العصور أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ.
أبشري يا أم حبيبة
قالت أم حبيبة رضي الله عنها: “فأتاني آت في نومي فقال: (يا أم المؤمنين)… ففزعت، فما هو إلا أن انقضتْ عدّتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن، فإذا هي جارية يُقال لها أبرهة، فقالت: (إن الملك يقولُ لك: وكّلي مَنْ يُزوِّجك)… فأرسلت إلى خالـد بن سعيـد بن العـاص بن أمية فوكّلته، فأعطيتُ أبرهة سِوارين من فضّة…”.
ألا ترون معي أن هذه المرأة ليست وحدها ولا متخلى عنها في هذه المحنة؟ فإن للرؤى التي لا تفتأ تراها في منامها دلالات مباشرة من رب السماء لتثبيتها على الحق، وكذلك في كل محنة تصيب المؤمن لا ينجيه منها إلا صدقه، فمن صدق اللهَ صدقه.
– يتبع –