لدي صديق أعزب يتمنى أن يجد فتاة جميلة، ملتزمة، طيّعة ليّنة، وذات حسب ومال وجمال ودين (لاحظ أنه يريد أربعة في واحد!)..
أنا لا ألومه على أمنياته المشروعة ولا أمانيه المعسولة، ولكن الحقيقة مختلفة وتفاصيلها أكثر تعقيدا..
وعلى افتراض أنه (دجاجة بكمُّونِها) كما تصف النساء الأعزب المتميز في عمله ومستواه المادي ووسامته وهلم جرا، فإن الواقع مختلف تماما، حسب تجربتي في الزواج التي أكاد أجزم أن أمي دعت لي في ساعة استجابة (ولست متأكدا أن حماتي قد فعلت الشيء نفسه لابنتها).. فلا يمكن لمجموعة صدف متسلسلة أن تقودني لهذه الزوجة، لولا القدر الإلهي الذي يدبر الأمر من قبل ومن بعد، ويضع كل ما يبدو أنه مصادفات في سلسلة متتالية ينعتها الناس بالقسمة والنصيب..
جلست مع صديقي بعد صلاة العصر قرب المسجد وبدأت أناقشه أمنياته واحدة واحدة..
قلت له تريدها جميلة فاتنة؟ فضحك حتى بدت نواجذه.. أخبرته أن الجمال أمر نسبي، هناك الصورة الظاهرة ولكن الجمال الحقيقي يكمن في التفاصيل. هناك جمال الابتسامة وفتنة الأسلوب وروعة الكلمة وإغواء الحركة… أشياء بسيطة صغيرة رائعة هي التي تصنع الجمال الكلي.. توليفة تمنح الأنثى فِتنتها، قد لا تعجبك صورتها الظاهرة، لكنك تجد نفسك مستعدا للوقوع في غرامها بعد محادثة بسيطة! الوصف النبوي بليغ جدا (إذا نظر إليها سرّته)
حرك رأسه متفهما ثم سأل عن الحب والشغف. وتمناها “تصب عليه الحب صبا”، اتسعت ابتسامتي وأنا أردد بيت البوصيري رحمه الله (والحب يكتنف اللذات بالألم).
أخبرته أن الحب هو ثمرة توفيق إلهي، وليس ثمرة اجتهاد شخصي. الحب ليس هو ما تصوره الحكايات السينمائية وخيال الروائيين، بل هو شعور بالنقص يمتلئ بالزواج، وشعور بالاكتمال بعد أن تغلقا خلفكما باب البيت. ومهما بلغ عمق الحب بين الذكر والأنثى فثمة شيء ناقص في علاقة بدون زواج، شيء لا يمكن وصفه ولا التعبير عنه لكنه محسوس بالفطرة والروح..
الفرق بين أن تحب فتاة وبين أن تتزوجها، كالفرق بين من يعرف فضل مجالس النصيحة وبين من يحضرها.. فرق شاسع بين أن يكتنفك شعور الحب وبين أن تعيشه بحلوه ومره وأمجاده وانكساراته… أن تحب فتاة وتسعى للوصول إليها شيء، وأن تظل معها العمر كله شيء آخر. فكم من قصص حب أسطورية انتهت بالطلاق.. وكم من قصص هادئة نضج الحب بين الزوجين على مهل، فنما على سوقه واستغلظ واستوى حتى أصبح الزوجان لباسا واحدا كما وصفهما الله عز وجل، وكيانا واحدا في بيت واحد وبحكاية واحدة..
تململ صديقي وقال مترددا بأن الزواج في الكثير من الحالات قد يقتل الحب فتصير المشاعر باردة..
أجبته بهدوء من يهمه الأمر، أن بعد الزواج قد “يرحل الشعر المحلق في الأجواء لِيَحل محله النثر المثقل” باليومي والتفصيلي والعادي..
لكن هناك “المودة” وهي الخط الأحمر الذي لا يجب تجاوزه، مودة تحفظها لشريكك وإن غاضبته وغاضبك. ثم هناك “الرحمة”، بأن تغفر الزلات وتمحوها، وتتغافل عن الهنات وتتعامى عن النواقص ولا تلقي لها بالا: “إن كره منها خلقا، رضي منها آخر”…
ثم يبزغ “الفضل”؛ ذكريات مشتركة، ومشاعر متبادلة، وأحلام مقتسمة، ولحظات سعادة، وتضحيات، وأحزان، وتشارك للملح والعشرة.
وأخيرا هناك “الحفظ”؛ حفظ الله حيث تودع الأدعية والأمنيات، وتتآلف النفوس المتراحمة والقلوب المتوادة.
بدا صديقي متحمسا وأحسست أنه استراح للحديث معي قبل أن يتوقف مقطبا حاجبيه وهو يسأل عن معضلة يتخوف منها أغلب شبابنا؛ وهي درجة التفاهم والتشابه في الميولات والاهتمامات، ولذلك يفضل بعضهم الزواج منها صغيرة حتى (يربيها) على يديه.
ضحكتُ بصوت مرتفع حتى التفت إلينا بعض المارة وأنا أربت على كتفه مازحا: يا صديقي المسكين؛ ألاَ تعلم أن صغيرتنا اليوم تستطِيع أن تربيك وتربّي أهلك وجيرانك وحتى أهل الحي.. ثم هل أنت تبحث عن زوجة أم عن رفيق تجلس معه في المقهى!
الزواج يا صديقي تكاملٌ وليس تشابها.. أن تتشابه ميولاتكما وهواياتكما هذا مما يحدث في الأفلام والمسلسلات الرومانسية.. الواقع غير هذا، ابحث عن زوجة، تسترك وتسترها، عن فريق يدعمك وتدعمه، عن أسرة تبنياها معا، عن بيت للسكن والسكينة، لا عن جليس مقهى عابر…
سألني عن الاستقرار المادي والمالي فقلت له: الاستقرار المادي مهم ومفيد، ويساعدك في تغيير ستائر النوافذ ومخدات البهو وملاءات السرير، لكنه ليس الأصل، سيصبح البيت مجرد غرفة في فندق ما لم تنتصر الإنسانيات؛ احترام العشرة، والكرامة، وشعور الأمان، والتماس الأعذار، وافتراض حسن النوايا، والتشجيع، والتفهم، والقدرة على الاعتذار، والقدرة على قبول الاعتذار.. هو الرهان الحقيقي.
سعادة الزواج ليست في العثور على الشخص المناسب، ولكن في اجتهادك أنت بأن تكون الشخص المناسب.
سكتُ قليلا وأنا أتابع وقع كلماتي عليه، فبدا لي فرحا ومقتنعا ويفكر في اقتحام العقبة، ثم سألني بخشوع: وماذا عن ذات الدين تربت يداك؟
تنهدت بعمق وأنا أردد قولة ابن الجوزي (ورُبَّ زواجٍ حَدثَ مِنه ولدٌ مِثل الشافعِي وأحمد بنُ حنبل فكان خيرًا مِن عبادة ألف سنة).
رن هاتفي فجأة، كانت زوجتي تطمئن وتسأل عن سبب عدم عودتي من المسجد لأن شاي العصر سيبرد وهي تنتظرني.. غمزت لصديقي وأنا أحدثه بما أخبرني به أحد الصالحين:
إن مبادئ السعادة الزوجية ثلاث: لا للعنف ولا للسرية ولا للتعامل مع الخارج. ثم همست وأنا أودعه على عجل: كن رجلا يتحدث إليها كملكة ويعاملها كأميرة ويدللها كطفلة…
افترقنا ولم أعد أره، وهو اليوم يحتفل بالذكرى السنوية الثالثة لحديثنا عن الزواج ولا يزال أعزبا مترددا رعديدا..