قبسات من الفكر المنهاجي في صلة الرحم

Cover Image for قبسات من الفكر المنهاجي في صلة الرحم
نشر بتاريخ

أعلى ما يرجى بلوغه من مراتب الدين الإحسان، وأعظم ما يطلب من الغايات وجه الله سبحانه وتعالى، وأكبر ما يعين على تحقيق الأماني والوصول إلى المعالي صحبة راشدة مرشدة تسعى لتغيير قرآني نبوي شامل، منطلقه وقاعدته قلب الإنسان، تجدد الإيمان في القلوب وتحيي سنة الله في أرضه.

صحبة تأخذ بيد كل فرد طلق جاهليته وأعلن توبته لتضع قدمه على أول الطريق، تزيل عن قلبه الرين بالتربية، تخاطبه بما يحييه، وتصعد به المدارج؛ إسلام ثم إيمان فإحسان [1]، حتى يصبح شغله الشاغل وسؤاله الدائم هو: هل سيزيد إيماني؟ هل سيزيد إحساني؟ كيف ستكون آخرتي؟

صحبة تحتضنه وتعلمه أن إيمانه لن يكتمل إلا إذا أحب لأخيه ما يحبه لنفسه (كما جاء في الحديث النبوي) [2].

يحب لنفسه الوصل من الله، فلا يقطع ما أمر الله به أن يوصل، لا يقطع صلة الرحم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فقالَ اللَّهُ: مَن وصَلَكِ وصَلْتُهُ، ومَن قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ” [3].

ولا يعق عند توبته والديه لمعصية أو بدعة فتحرم عليه الجنة، بل يحسن إليهما وإن كانا كافرين، سيرا على نهج رسول الله صلى الله علي وسلم الذي أذن لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها في زيارة أمها التي كانت على الكفر، وقال لها: “صلي أمك” [4].

وامتثالا لأمر الله القائل عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ إِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة لقمان، الآيتان 14 و15].

وهكذا مع ذوي الرحم جميعهم؛ الأقرب فالأقرب، لا يقطع معهم العبد الصلة مهما عظمت ذنوبهم وساءت أخلاقهم، متبعا في ذلك سبيل من أناب إلى الله. يقول الإمام المجدد رحمه الله: “من المؤمنين من يفتقد عند توبته مرشدا يدله على الرفق، فإذا كان له أبوان وذو رحم سادرون في الغفلات، أو يعلم الله ما عندهم من موبقات، أعلن الابن والابنة الحرب على الوالدين والأقارب، وخسرت الدعوة فرصة لتبليغ الناس أن الإسلام رحمة وطهارة وسلم للعالمين” [5].

صحبة تدعو العبد لمراجعة أفكاره ومواقفه، وتعينه على التحرر من عاداته السيئة، ليدرك أن محبة الصادقين، السابقين بالإيمان، السائرين على منهاج نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، تورث حب الله، والمحبة في الله، والصدق في طلب وجه الله، وسلامة القلب، فلا يقطع صلة الرحم الإيمانية.

يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “من كان همه الله، وضابطه الشرع، ومنهاجه الاتباع، لا يحسد ولا يعادي المسلمين ولا يهجر ذوي صحبته وقرابته، ويعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطي من حرمه” [6].

صحبة تعلمه وتفهمه أن قول الله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال، من الآية 60] لا يتنافى مع قوله سبحانه وتعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل، من الآية 125].

فحين تصعد همة المؤمن للجهاد يتسلح بالعلم الدنيوي النافع ليسهم في تقوية الأمة الإسلامية، وينشر في الوقت نفسه دعوة الله في الأرض، يوصلها لمن لا يزال غارقا في الكفر بالرحمة والحكمة. يقول الإمام رحمه الله: “الإيمان رحمة وحكمة” [7].

يتسلح بالحكمة التي ما غابت عن المعلم الأكبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف على قبر رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ودعا له بالرحمة والمغفرة، والتي لم تغب عن خليفته سيدنا عمر بن الخطاب وهو يسعى لتحقيق التراحم والتواصل والتكافل الاجتماعي بين المسلمين وغير المسلمين.

سيدنا عمر بن الخطاب كان يسير يوماً في الطريق فرأى رجلاً يتسول، فقال له: ما لك يا شيخ؟ فقال الرجل: أنا يهودي وأتسول لأدفع الجزية، فقال عمر: والله ما انصفناك نأخذ منك شاباً ثم نضيعك شيخاً والله لأعطينك من مال المسلمين، وأعطاه عمر رضي الله عنه من مال المسلمين [8].

فاللهم اجعلنا ممن يسعى لقربك بالحكمة والعلم والتؤدة والرحمة، ووفقنا يا رب لنصل أرحامنا فنحظى بالمحبة في الأهل، والبركة في الرزق والعمر، واغفر لنا يا مولانا بصلة الرحم ما عظم من ذنوبنا، واكتب لنا بها يا جواد يا كريم  أجر الحج والعمرة والجهاد.


[1] أخذا عن حديث جبريل عليه السلام الذي رواه الشيخان وأصحاب السنن عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[2] عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” رواه البخاري ومسلم.

[3] رواه أبو هريرة. صحيح البخاري، الحديث رقم: 5988.

[4] حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله ﷺ فاستفتيت رسول الله ﷺ قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، “صلي أمك”. أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب الهدية للمشركين، (3/ 164)، برقم: (2620).

[5] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/1، صفحة 144.

[6] المصدر نفسه، صفحة 191.

[7] عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ط2018/1، ص 94.

[8] الأثر المذكور رواه غير واحد من أهل العلم، منهم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال، وابن زنجويه في كتاب الأموال. وتناقله كثير من أهل العلم، منهم الإمام السيوطي في جامع الأحاديث، وابن القيم في أحكام أهل الذمة وصاحب كنز العمال.