صناعة الحرية (13).. مع المرضى ثم مع المجانين!

Cover Image for صناعة الحرية (13).. مع المرضى ثم مع المجانين!
نشر بتاريخ

مع المرضى.. ثم مع المجانين!

وهو في معتكفه الاضطراري بمصحة الأمراض الصدرية بمراكش، ورغم المضايقات التي لا تحصى، استأنف الأستاذ ياسين خلوته الروحية والفكرية، أي استأنف صناعته المفضلة “الحرية”، حيث اعتبر أن تلك المرحلة السجنية “كانت فترة هدوء وتأمل وتفكير في الظاهر. وفترة ذكر عميق وفترة خلوة. كانت هي من أسعد فترات خلوتي، لا أقول أسعد فترات حياتي، كانت من أسعد فترات خلوتي، فكانت السنوات الثلاث والنصف مناسبة لملازمة الأذكار، ولمراجعة ما كان فقد من القرآن الكريم… كانت فترة ذكر في كلمة واحدة” 1، إذ كان يصوم نهاره ويقوم ليله، كما كان من عادته في جميع فترات اعتقاله الصيام المتواصل كما حكى صهره الأستاذ عبد الله الشيباني 2. بالإضافة إلى القراءة والكتابة، حيث كان يأتيه صديقاه الأستاذ علي سقراط والأستاذ محمد مومن رحمهما الله بالكُتب، ويضعها في صندوق خضرٍ جعل منه قِمَطره الذي يكتب عليه، كما كان يكثر من زيارته الأستاذ أحمد الملاخ. بالإضافة إلى متابعته صدى الرسالة في الأوساط الاجتماعية من خلال ما يستقيه زواره من أخبار، كما ذكر بنفسه مراجعته واستظهاره للقرآن الكريم الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب في صباه.

مصحة الأمراض الصدرية بمراكش

وبينما هو في خلوته الاضطرارية فعلت الرسالةُ فعلها في المجتمع السياسي والثقافي، فأثارت الجميع وعلق عليها الجميع، سواء في مكتوباتهم أو بين الأصدقاء، أو في أنفسهم لمن بلغ بهم الرعب من أجهزة المخزن الاستخباراتية مبلغه. ولا زلنا نصادف بين الفينة والأخرى أثرها في كتابات العلماء والمفكرين والسياسيين والأدباء، من حيث يستحيل تجاهل تلك الرسالة التي عنونت تحولا في مسار صاحبها الفكري قبل أن تُحدث الأثر في واقع الناس. قال عنها حسن أوريد وهو أحد مستشاري الملك محمد السادس والناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا، بأنها “تشكل عقد الميلاد السياسي لياسين” 3، وهو تأكيد منه لفكرة التحول، أو قل العروج من ذهنية الدروشة والإعراض عن الاهتمام بالشأن العام الذي تدار وتدبر فيه شؤون الأمة وتحدد سياساتها، إلى مستوى الحضور الإيجابي اليقظ والمسؤول. من إزاء الإسلام في شموليته لا بعيدا عنها ولا اختزالا لها، منتقدا قصور التفكير بشروط الحتمية التاريخية، وتقلص التفكير الانتظاري، الذي يلتصق بإكراهات الواقع لتأبيدها لا لتغييرها.

ورغم التضييق عليه ومنعه من تلقي الكتب والأقلام أحيانا، ووسط برنامجه المكثف خطَّ رسالة ثانية باللغة الفرنسية إلى الملك (Mémoire à Sa Majesté le Roi) في أبريل من سنة 1977م، على سبيل الإلحاح في الدعوة والنصيحة 4، فأسكنوه مع المجانين في مستشفى “باحماد” 5 بحي أكدال بمراكش لطي خبره، إلى حين “مداواة الجنون” 6 أو توبة “المجنون”. والفرق بين اتهامه بالجنون وتركه في مستشفى الأمراض الصدرية، هو أنه بالإضافة إلى الإمعان في العقاب، فالمجنون يسهل إهماله من غير أن يسمع لقوله أحد، ولا أن يدافع عن حقه في الكلام أحد، وإن كان قد أُدخل المستشفى من غير تقرير للطبيب المختص!

الرجل كان مهابا بين معارفه، بل كان “يهابه الملك الراحل الحسن الثاني” 7 أيضا كما قال المفكر والسفير الألماني الأسبق بالمغرب مراد هوفمان رحمه الله (ت2020م)، لأن “الرجل كان قويا في الحق يكره المداهنة والمهادنة” 8، ولا تثنيه عقابيل الخوف ولا يعطله الأذى الذي لحقه عن تبليغ دعوته على كل حال وفي كل حين، وبمختلف الوسائل المشروعة، ولا يعبأ بخطاب التهديد الذي يُخوف، ولا بخطاب التيئيس الذي يُقنط، يصانع ظرفه بما يناسب، وإذا تبين له الحق قصده وصدع به، وتفاءل بأثره وثمرته، ولا يلتفت لرضا الناس ولا لسخطهم، بل يشق طريقه وكأنه عبد مأمور.

عايش ظروف القهر في المستشفيات المغربية، وخبر سياسة الدولة في التعامل مع حاجة المواطن المريض، ورأى بعينه معاناة المرضى وقلة الدواء وانعدام النظافة وسوء المعاملة من الإدارة. وكان يحزُّ في نفسه أن يعاني الناس ويتألموا فيزداد إصراره على ضرورة التفكير في تغييرٍ مجتمعي شامل يقطع مع أنواع التفكير العنيف والتفكير التجزيئي والتفكير المستقيل، ليفك رقاب الأمة من أغلال السلطوية ولوازمها، ومن أعشاش الفساد وتوابعها، ويؤسس لتعاقد جديد يحفظ كرامة الإنسان من الإذلال والامتهان. والحلمُ بالتغيير مع التخطيط له والعمل من أجله هو تهمة الرجل الحقيقية في نظرنا.


[1] ياسين، عبد السلام. حوار شامل، مرجع سابق، ص 24.
[2] الشيباني، عبد الله. كيف يقضي الإمام عبد السلام يومه وليلته؟ شريط فيديو منشور في قناة الشاهد (chahed.tv)، يوم 22 نونبر 2014م، وشوهد في 15 ماي 2020م، ابتداء من الدقيقة 5.
[3] أوريد، حسن. السياسة والدين في المغرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2020م، ص 65.
[4] سأتحدث عنها لاحقا، في محور خاص بالمؤلفات التي دونها الأستاذ في سجن مراكش (1974-1978م).
[5] مستشفى للمجانين يسمى “باحماد” نسبة إلى “أحمد بن موسى” وزير السلطان المولى عبد العزيز، الذي بناه قصرا في البداية، ثم سكنه بعض حكام وولاة مراكش، كما سكنه الجنيرال اليوطي أيضا، قبل أن يُقتطع منه جزء ويتحول إلى مستشفى للمجانين بحي أكدال وسط المدينة بمراكش، وهو الذي سُجن به الأستاذ، وقد تحول اليوم إلى مركز صحي لساكنة منطقة أكدال.
[6] انظر: كيتيل، كلود. تاريخ الجنون من العصور القديمة وحتى يومنا هذا، ترجمة سارة رجائي يوسف وكرستينا سمير فكري، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، ط1، 2015م، ص 227.
[7] هوفمان، مراد. مترجم من الإنجليزية عن مجلة “The Muslim World Book Review” العدد الصادر بتاريخ 21 – 03 – 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية.
[8] المرجع نفسه.