إن لعب دور الضحية أو شخصية “الضحية” [1] self-victimization يقصد به في علم النفس دور يستعمله الشخص للظهور بمظهر المغلوب والمظلوم؛ الذي يبحث دائما عن أعذار تبرّر سلوكه غير السوي، ويلتمس به التعاطف عوض تلقي اللوم والمحاسبة، وتحدد صفات هذه الشخصية كما يلي:
– كونه عديم المسؤولية بشكل كامل؛ يرمي اللوم على الآخرين ويتهرب من نتائج المشاكل التي يتسبب فيها.
– يعلق شمّاعة فشله على الآخرين.
– يجادل دائما ويلعب بالكلمات محاولا التبرير المستمر.
– يشفق على نفسه دائما ولا يحاسبها، ودائم الشكوى.
إنها استراتيجيته للبقاء، نظام تفكير واعتقاد يهدف به الشخص حماية نفسه ومنعها من أي تجربة حقيقية قد تسبّب له أي ألم أو صعوبة أو مجهود، بالنسبة له القيام بأي خطوة هو مجرد مخاطرة كبيرة لا داعي لها، ولا يُتوقّع منه أن يفعل أكثر، ويُجبر من حوله على مداراته كما يجبرهم على رعايته ودعمه عن طريق تحسيسهم بالذنب في هروب تام من تحمل المسؤولية تجاه ذاته وتجاه الآخرين. إن المصاب بهوية “الضحية” يتخذ من أفكاره آلية دفاع وطريقة تعامل مع المواقف إما عن وعي فيكون بذلك محتالا، وإما عن غير وعي فيكون إذ ذاك مريضا نفسيا يحتاج للعلاج، ويبقى في كلتا الحالتين ضحية “مصطنعة”.
لكن الغريب في الأمر أن هذه العقلية صارت ثقافة في مجتمعاتنا العربية يُنشّأ عليها، وصار لكل شخص سلوكه منحرف أو مقصّر في أداء مسؤولياته مبرّر بكونه ضحية لما فعله الآخرون، صار التملّص وإلقاء اللوم منفذا ومنجاة بدعم تام من المحيط، والأغرب أن تنتهج الحكومات العربية نفس الاستراتيجية مع شعوبها فتعلق كل فشل لها على “استهتار” المواطن، بل الأخطر من ذلك أن شخصيّة الضحية تنجح في جعل الآخر يلوم نفسه ويحمّلها أخطاء غيره، فنجد الشعب يحمّل نفسه نتائج التقصير والشّطط والتّفقير و… فيتخلّى بذلك الكل عن مسؤوليته تجاه نفسه أولا وتجاه مجتمعه، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ ديننا القويم وتشريعاته، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” [2]، وفي حديث آخر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل على أهل بيته” [3]. أحاديث تبرز لنا التكليف القطعي لإثبات مسؤولية الفرد تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، وإلا لما كلفنا الله بالتغيير والفعل الإيجابي والسعي بكل الأسباب لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ولكان رسول الله أول ضحية ومن سبقه من الأنبياء ليكتفوا بالقعود وتوجيه اللوم والبكاء على آلامهم وابتلاءاتهم، وحاشا لله أن يفعلوا.
إنها ثقافة سمّمت أفكار مجتمعاتنا العربية فصرنا نجيد الإسقاط واللّوم أفرادا وجماعات كما نتقن تقديم المبرّرات، فلو كان الله عاذرا أحدا بسبب ما يلاقيه من صعوبات لكان أنبياؤه أولى بذلك فيسقط عنهم التكليف، خطاب اللّوم والتّبرير سمّ ينخر جسد الأمة بما يحيد بها عن جادة الصواب في غياب المحاسبة، إن خطاب المسؤولية والتحمّل والتكليف، واعتبار أن الإنسان فاعل في محيطه على المستوى الفردي والجماعي، من شأنه أن يبني بناء سويا ومتينا حياة الفرد كما الجماعة. فكل مكروه أو مصيبة هي نتيجة تقصير كما علمنا الله سبحانه وتعالى في قوله: “وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ”، ولأن النفس البشرية تركن للتفرّغ من الواجبات نبّهنا الله تعالى ورسوله كي لا تختل موازين المجتمع، فيصبح الداء عضالا ينخر جسد الأمة ويجعلها تتهاوى تحت ذريعة “الضحية”.
وعلى النقيض من هذه الثقافة الموهمة نجد محاسبة الذات تسود الأقوام المتحضّرة؛ حيث يعترف كل فرد بمسؤوليته الكاملة ويسعى لإيجاد السبيل الكفيلة بتجاوز الفشل بنفسه أو بطلب المساعدة، ثقافة محفّزة لتحقيق النجاح والتقدم عوض الانتشاء بالهزيمة أمام النفس وأمام المجتمع تلذّذا بطعم “الضّحية” وتذرّعا بها، والتي تعني بكل اختصار “موت بطيء للضمير الإنساني”.
[1] انظر: جورج سيمون، كتاب: “In Sheep’s Clothing: Understanding and Deal”.
[2] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” {النساء، 59}، حديث رقم 6756.
[3] حديث حسن أخرجه الإمام النسائي رحمه الله.