صيام رمضان: من العادة إلى العبادة

Cover Image for صيام رمضان: من العادة إلى العبادة
نشر بتاريخ

يعد صيام شهر رمضان من أهم وأقدس العبادات التي فرضها الله عز وجل، ويتميز عن غيره من العبادات بالروحانية والخصوصية التي يحملها؛ فهو عبادة تزكي النفوس وتهذب الأخلاق، وفرصة عظيمة للارتقاء بالنفس والتقرب من الله سبحانه وتعالى. والغاية من الصيام تتجاوز كونه عادة اجتماعية أو ثقافية إلى عبادة عظيمة تهدف إلى التقوى والطهارة الروحية والجسدية.

الصيام كعادة اجتماعية

يعتبر شهر رمضان مناسبة اجتماعية يجتمع فيها أفراد العائلة والمجتمع على مائدة الإفطار والسحور، ويشارك الجميع في التقاليد الرمضانية من الاستعدادات التي تزين موائد الإفطار وتبادل الزيارات والتهاني لتشمل أيضا صلاة التراويح وإحياء ليالي العشر الأواخر؛ إذ يلاحظ في بعض المجتمعات أن الصيام في هذا الشهر يشكل عادة تلتزم بها الأسر دون أن يدرك الأفراد عمق العبادة فيها، فيركز البعض على طقوس رمضان من تحضير الطعام، والزيارات الاجتماعية، والترفيه في ليالي رمضان، فتحول هذه الطقوس دون التركيز على الجانب التعبدي والجوهر الروحي للصيام. قال النبي ﷺ: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش” [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]. ومن مظاهر الصيام كعادة اجتماعية نجد:

· التركيز على الجوع والعطش.

· الانشغال بتحضير الطعام دون استحضار نية التعبد.

· قضاء معظم النهار في النوم والتسلية.

· انتظار وقت الإفطار مع الشعور بالملل والتوتر.

· عدم الاهتمام بالصلاة وقراءة القرآن والذكر…

الصيام عبادة خالصة لله تعالى

الصيام فرصة لتطهير النفس وتهذيب الروح، حيث ينتقل المسلم من التركيز على الجانب الظاهر من العبادة إلى عمقها الروحي؛ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، وهذا يشير إلى أن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو تدريب للنفس على الصبر والتحكم في الشهوات، وطريق سالك إلى تقوى الله تعالى.

رمضان فرصة عظيمة للمسلم للتوبة والتقرب إلى الله، والتخلص من الذنوب والمعاصي، فقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” [رواه البخاري]؛ يؤكد هذا الحديث أن الصيام لا يقتصر على الجوانب المادية، بل إنه يحمل أبعادا روحية عظيمة، أهمها مغفرة الذنوب والتقرب إلى الله بالنية الصادقة والعمل الطيب.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “حق الصيام هو كف الجسم عن الماديات الممنوعة شرعا، وكذا الجوارح واللسان عن المعاصي، وشغلها بالعبادة لتضفي على القلب روحانية تنسيه أثقال الأرض ليتعلق بمعاني السماء” 1؛ عن هذا الصيام الكلي يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به” [متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

رمضان مناسبة عظيمة لتقوية العلاقة بين المسلم وربه، فعند امتناع المسلم عن الطعام والشراب طيلة النهار، يشعر بالقرب من الله جل وعلا، ويتعلم كيفية الصبر والتحمل. والصيام تمرين على الصبر والتحكم في الشهوات، مما يعين المسلم على تقوية إرادته، وتدريب نفسه على الانضباط. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم” [رواه البخاري]؛ هذه الوصية النبوية تبين أن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب فقط، بل هو صيام للسان والنفس عن المعاصي والذنوب، مما يعكس الأثر الروحي للصيام في تقوية الإيمان وتزكية النفس.

كيف ننتقل بصيامنا من العادة إلى العبادة؟

هناك فرق بين من يصوم شهر رمضان امتثالا لأمر الله طلبا للأجر والثواب، ومن يصومه كعادة اجتماعية دون استشعار لمعانيه الروحية والتربوية، فكيف نرتقي بصيامنا من العادة إلى العبادة؟

إن الانتقال من العادة إلى العبادة يتطلب الفهم العميق لغاية الصيام، فقد بين القرآن الكريم أن الهدف الأساسي من الصيام هو التقوى كما جاء في الآية 83 من سورة البقرة -المذكورة آنفا- التي تؤكد أن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو وسيلة لتحقيق التقوى والطهارة الروحية، والامتثال لأوامر الله في كل ما يرضيه.

ولننتقل بالصيام من العادة إلى العبادة، يجب تتبع الخطوات التالية:

– تصحيح النية: استحضار أن الصيام عبادة تقربنا من الله، وليس مجرد امتناع عن الطعام.

– التخطيط لعبادات رمضان: تحديد أوقات لتلاوة القرآن، الصلاة، الدعاء، الذكر والصدقة.

– تجنب الملهيات: تقليل الانشغال بوسائل الترفيه.

– مجاهدة النفس: ضبط اللسان، غض البصر، والتحلي بالصبر والسكينة.

– الاستفادة من وقت السحور والفطور: الدعاء والتضرع إلى الله في هذه الأوقات المباركة.

إن صيام رمضان ليس مقتصرا على شهر واحد في السنة، بل هو بداية لتحول كبير في حياة المسلم، حيث يمكن أن يكون دافعا لتحويل العديد من العادات اليومية إلى عبادة مستمرة؛ فالمسلم الذي صام رمضان بصدق وإخلاص يتوقع أن يمتد هذا التغيير ليشمل سلوكه وطريقة تفكيره طوال العام. وفي هذا السياق، قال الإمام علي رضي الله عنه: “من صام رمضان ولم يتغير قلبه، لم ينل من رمضان إلا الجوع والعطش”. هذا التأكيد يبرز أن الفائدة الحقيقية من الصيام هي التغيير الداخلي في حياة المسلم، حيث يصبح الصيام دافعا للابتعاد عن المعاصي، والإكثار من الطاعات، والارتقاء بالأخلاق.

رمضان فرصة عظيمة للارتقاء بالنفس والاقتراب من الله، فالصائم ليس فقط من يجوع ويعطش، بل من يملأ قلبه بالإيمان، ويجعل من صيامه وسيلة للتغيير الروحي والأخلاقي. فهلموا جميعا لنجعل رمضان هذا العام مختلفا، وننتقل بصيامنا من العادة إلى العبادة.


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، الجزء الأول، ص: 295.