قاد الكيان الصهيوني حربا مجنونة على قطاع غزة جوا وبحرا وبرا، ضرب من خلالها البشر والشجر والمدارس والمساجد والكنائس مع فرض حصار مشدد شمل منع وصول الغذاء والدواء والماء والكهرباء إلى مجموع ساكنة غزة منذ انطلاق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، وكان شعاره المعلن الذي سوق له محليا ودوليا، هو إعادة احتلال غزة واجتثاث المقاومة وتحرير الأسرى بالقوة، لكن في اليوم 48 من العدوان تم التوصل إلى هدنة مؤقتة تستمر 4 أيام قابلة للتمديد، يتم خلالها تحرير مجموعة رهائن بيد المقاومة الفلسطينيّة كل يوم مقابل تحرير مجموعة أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال الصهيوني، مع السماح بدخول المساعدات الغذائية والدوائية والوقودية إلى القطاع، وفي خضم هذه العملية والهدنة راج النقاش في هذا المعسكر أو ذلك المعسكر عن الرابح والخاسر في هذه الصفقات ومن هذه الحرب.
عند الدخول في صلب هذ النقاش يجب استحضار مجموعة معطيات ميدانية وتاريخية من أجل النظر في أفق الصراع الفلسطيني والصهيوني، الذي يمتد أثره إلى الماضي ويلقي بظلاله على المستقبل، فتاريخ الصراع مع الاحتلال الصهيوني طويل، وقد تخلل مختلف مراحله عملية تبادل للأسرى والرهائن بين الطرفين مالت فيه الكفة لهذا الطرف على الآخر أو حصل العكس، وهكذا ومنذ اندلاع هذا الصراع في سنة 1948 حصلت 38 عملية لتبادل الأسرى بين أطراف الصراع، وفي هذا المقال سأقتصر على استخلاص بعض المواقف من تلك العمليات خصوصا في إطار تبادل الأسرى مع فصائل المقاومة دون الحديث عن تبادل الأسرى مع بعض الدول العربية كلبنان أو سوريا أو الأردن أو مصر، لأن أغلب تلك التجارب كانت عادية إن لم تكن فاشلة من الجانب العربي لوهن تلك الأنظمته المنفصلة عن جماهير شعبها وتطلعاتهم، في مقابل نجاح المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية في عملية التبادل في أغلب المحطات وتمكنها من انتزاع حقها وفق شروطها، وسأذكر بعض هذه الصفقات مع التعمق في تفاصيل صفقة الجنديّ شاليط التي وقعت عام 2011 وذلك لتشابه حالها مع ما يقع الآن في كثير من تفاصيلها، ومن أهم هذه التفاصيل وجود نفس الأطراف، حماس وما تمثله من جهة ونتنياهو من جهة أخرى.
ففي 23 يوليوز 1968 جرت أول عملية تبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان، وذلك بعد نجاح مقاتلين فلسطينيين باختطاف طائرة صهيونية كانت متجهة من روما إلى تل أبيب، وأجبرتها على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام صفقة التبادل من خلال الصليب الأحمر الدولي فلسطينياً، وأفرج عن الركاب مقابل إطلاق 37 أسيرا من ذوي الأحكام العالية.
وفي 23 نونبر 1983 حصلت عملية تبادل أخرى ما بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية، أطلقت بموجبها سراح جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم 4700 أسير فلسطيني ولبناني، و65 من فلسطين المحتلة مقابل ستة جنود صهاينة أسروا في لبنان من قبل منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي 20 ماي 1985 أجرت دويلة الاحتلال عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، والتي سميت بعملية الجليل وأطلقت دولة الكيان الصهيوني بموجبها سراح 1155 اسيرا كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود كانوا بقبضة الجبهة الشعبية.
وفي 29 يناير 2004 جرت صفقة تبادل ما بين حزب الله وحكومة الكيان المحتل عبر وسيط ألماني، أفرجت بموجبها عن 462 أسيرا منهم، كما أفرج خلالها عن المواطن الألماني ستيفان مارك، كما أعادت جثث تسعة وخمسين مواطنا وأخبرت عن مصير أربعة وعشرين مفقوداً وقدمت خرائط الألغام في جنوب لبنان وغرب البقاع. كما أفرجت بموجبها عن 431 فلسطينياً من الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالمقابل أفرج حزب الله عن شخص واحد فقط وهو قائد في الجيش الصهيوني هو إلحنان تانينباوم ورفات 3 جنود كانوا قد قتلوا في أكتوبر عام 2000.
إن الدروس المستخلصة من سرد هذه الصفقات أو من صفقات أخرى هو فهم العقلية الصهيونية التي تدير بها هذه الصفقات والحروب والمفاوضات، فعقيدة الصهاينة العسكرية تقوم على شبكة معقدة من الاعتبارات منها سيادة مبدأ القوة والردع أو ما يعرف بسياسة الجدار الفولاذي وفق تعبير الدكتور وضاح خنفر وتقوم على بناء قوة رادعة مرعبة تعتمد على النار والحديد وعلى تصدير صورة التفوق الدائم عبر التحصين واستدامة التسلح الدفاعي والهجومي، وهو ما يرى من الهوس في اقتناء وصناعة الأسلحة والقبة الحديدية ومقلاع داود وقوة الموساد وقوة الأذرع الإعلامية والنفوذ الدولي وغيرها، وتعود فكرة الجدار وفق ما أورد المفكر خالد الحروبى إلى تنظيرات الزعيم الصهيوني زئيفى جابوتسكي الذي توفي سنة 1940 والذي أكد بعد مخالطته للشعب الفلسطيني، أنه يصعب تخليه عن حقه القومي في تقرير مصيره وأطلق فكرة الجدار الحديدي وتقوم على إقامة جدار حديدي يقوم على بعدين، أحد البعدين مادي متين جدا يصعب اختراقه والآخر رمزى يراد منه إغلاق باب الحوار مع العرب نهائيا إلى غاية إرهاقهم، وبعد التأكد من واقعة إرهاقهم وتعبهم يمكن آنذاك فتح باب المفاوضات معهم حول وضعهم وحقوقهم دون تمكينهم منها، والغريب أن هذا السيناريو هو الذي حدث في تاريخ الصراع كما يرى المحلل والمفكر إيفا شاليم في كتابه “الجدار الحديدي” وهو الذي طبع تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وهو بالذات ما أشار إليه مستهل الآية الكريمة عدد 14 في سورة الحشر: لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر… ويبقى هذا المبدأ هو سيد وسقف أهدافها مع خصومها وفق توجهات عسكرية صرفة مع ترك وتأجيل كل وسيلة أخرى ممكنة للحل لآخر المطاف، خصوصا في إطار تعاملها مع الفصائل المقاومة تحت مسطرة دقيقة أثناء مناقشة تبادل الأسرى وهي عدم الخضوع لابتزاز الإرهابيين أو فرض شروطهم على دولة الكيان مع رفع السقف بعدم تحرير من تبث تورطه في قتل اي صهيوني أو ساهم في قتله.
إن الكيان الصهيوني حين يجنح لصفقات التبادل فهو يجعلها آخر الحلول وحينها يصفها بالخيار الصعب وفق تعبير نتنياهو لعدم تحقق الأهداف المعلنة في هذه الحرب وهو ما يوحي بالفشل العسكري والاستخباراتي في أحيان كثيرة وفي أحيان أخرى يلجأ الكيان للمفاوضة بعد إرهاقه للآخر فيفعل به ما يشاء في المفاوضات ولكن في كلتا الحالتين يعمل على تسويق الصفقة أو الإفراج وفق إخراج مسرحي دقيق في صورة توحي بتكريم الكيان المحتل للجندي المفرج عنه حيا أو ميتا كفرد بطل وكجيش لا يقهر يحافظ على الشرف العسكري ولا يسامح حتى في جثت أفراده. ولكن مع نتنياهو ازداد معطى جديد وهو تطوير جانب الإرهاق إلى أبعد الحدود وهو اللعب ما أمكن بعامل الوقت وجعل العدو يعاني من جراء الأسر وجعله عبئا عليه، وهكذا سنرى في صفقة شاليط الذي استمر اعتقاله لمدة خمس سنوات وأربعة أشهر الدليل الواضح على هذه الاستراتيجية، فقد شنت بسببه وموجبه مجموعة حروب على قطاع غزة وارتكبت مجموعة مجازر منذ 2006 إلى أواخر 2011 لكن في عملية التبادل الحالية المتعلقة بالطوفان تحاول المقاومة أن تجعل من عنصر الوقت والتأجيل لصالحها وضد مصالح الكيان الصهيوني الذي دأب على شن حروب خاطفة.
وطبقا لذلك سيلاحظ المتتبع في صفقة شاليط وبعد طول تعنت وبعد طول استغلال لتلك المطية تطابقا كاملا مع هذا التّحليل، يقول عبد الغني سلامة: “لقد نجحت إسرائيل في توظيف قضية شاليط لصالحها منذ بدايتها وحتّى نهايتها المفتوحة، فعند وقوعه في الأسر رسمت له صورة خارجيّة مزيفة، فتحول بفعل إعلامها من جندي ضحية في مهمة حربيّة إلى الجندي المسكين فحولت أنظار العالم إلى منزل أسرته الذي صار محجا للمتضامنين مع دولة “إسرائيل” ضد الإرهاب الفلسطيني، ورسمت له صورة الابن الذي يحن للرجوع إلى حضن أمه، وعند عودته سوقت له صورة مغايرة تستهدف الجمهور الإسرائيلي صورة البطل المحارب العائد مع قادة الجيش حين أعادوه إلى الدبابة بزيه العسكري الأنيق”.
إن عملية شاليط ومن وجهة نظر المقاومة تمت وفق عملية مدروسة بمبادلة الأسير بمجموعة كبيرة من الأسرى الفلسطينيين قدر عددهم بـ 1027 فلسطيني من مختلف التوجهات السياسية ومن ذوي الأحكام العالية، وعلى رأسهم أحد قادة حرب الطوفان الحالية، السيد يحيى السنوار، وقد أتت الصفقة كنتيجة تظافر مجموعة عوامل منها تلويح السيد يحيى السنوار بقرب إغلاق الملف نهائيا أمام أي تسوية أو مفاوضات مستقبلية، ومنها عامل المحيط الإقليمي المشتعل الذي لعب دورا حيويا في الصفقة، ذلك أن العالم العربي كان يعرف انطلاق موجة الربيع العربي وكانت مصر بؤرة من بؤره مما جعل نتنياهو يرضخ للأمر الواقع خصوصا في ظل هجوم المظاهرات الشعبية على سفارة الكيان الصهيوني في القاهرة وظهور مطالبات حزبية وجماهيرية تطالب بإدخال تعديلات على اتفاقية كامب ديفيد، إضافة إلى احتمال صعود تيار مناهض للكيان بعد المرحلة الانتقالية التي كان يقودها المشير طنطاوي، مع استحضار أن الكيان كان يعيش توترا غير مسبوق مع تركيا، مما جعله يسارع في إغلاق هذا الملف بأقل الخسائر، وبعد هذه الصفقة المخزية للكيان الصهيوني، حيث لقيتهم المقاومة دروسا تاريخية في تدبير الملف ذلك أنها قطعت كل خبر عنه ولمجرد الاطمئنان على حياته أطلقت دويلة الكيان عشرين معتقلا بعد تأكيد ضابط المخابرات المصرية عمر سليمان أنه التقى به في سيارة في عملية معقدة تتضمن سربا من السيارات المتشابهة، بعد كل هذا سيحاول الكيان أن يتجنب وقوع أي جندي في يد المقاومة التي جرعته المرارة تحت طائلة اتخاذ إجراءات صارمة تصل حد قتل الأسير والآسر وهذا ما ترجمته صحيفة “هآرتس” بعد صفقة شاليط، والتي جاء فيها: “إن الجيش الإسرائيلي أصدر أوامر واضحة للجنود بأّلا يسمحوا لأنفسهم تحت أي ظرف من الظروف للأسر على يد جماعات المقاومة الفلسطينية ونشرت الصحيفة بتاريخ 18 أكتوبر2012 بان قائد كتيبة المشاة قال: يجب ألا تسمحوا بأن يكون جلعاد شاليط جديدا، يجب أن تمنعوا حدوث ذلك مهما كان الثمن، يجب أن تطلقوا النار على الخاطفين حتى لو أدى ذلك إلى مقتل جنود إسرائيليين وآسريهم”.
إن الكيان الصهيوني دولة قائمة على التوجس وعدم الثقة والخوف الدائم وهو ما أنتج هذا النمط من التفكير العسكري الصارم والأهوج وفي نفس الوقت لجأ العقل الصهيوني منذ القدم نظرا لطبيعته الجدالية إلى أسلوب المفاوضات من منطلق فكرة الجدار ومن باب الالتفاف والمراوغة وقد خبر عقلية الخصوم من دول وفصائل، وهو وإن كان يحاول ربح مختلف الحروب بالقوة العسكرية فهو لا يستبعد ربحها بالسياسة والدبلوماسية والمفاوضات وهو ما جعلها تقلب الهزيمة أو شبه الهزيمة مع مصر إبان حرب 1973 إلى انتصار استراتيجي، عبر المفاوضات بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 وقد أورد الدكتور محسن محمد صالح الباحث والمفكر الفلسطيني وهو بصدد تحليل استراتيجية الكيان الصهيوني في تدبير المفاوضات، أن الكيان يعتمد على “إدارة الصراع” وليس “حل الصراع” عبر خطة استراتيجية تفاوضية مدروسة تهدف إلى إطالة أمد المفاوضات مع إطلاق خبراء وصحافة تطلق بعض الخيارات مع استمراره في تكريس حقائقه على الأرض، وهم ما يجعل الخصم يتيه في التفاصيل دون تمكينه من الوصول إلى الحل الجوهري، وهو ما يتجلى مثلا في اتفاقية أوسلو وتداعياتها حيث توهم المفاوض الفلسطيني أنه سيخرج بدولة على حدود ما يسمى بأراضي 1967 ولكن واقعيا وجد نفسه في مربع لا يستطيع فيه التقدم أو التأخر بل وجد نفسه يفقد أشياء معينة في كل خطوة يحاول أن يخطوها كما حدث في تفاهمات يوسي بيلين ومحمود عباس ووثيقة جنيف بل وجد نفسه أعطى كل شيء للكيان من أرض وسيادة واعتراف بالعدو بل وتوظيفه لخدمة اجنداته دن أن يلوي على شيء.
وهكذا وبصفة مختصرة تدرجت منظمة التحرير الفلسطينية من الكفاح المسلح على أرضية كل فلسطين إلى القبول، نظريا، بدولة ديموقراطية تضم الجميع ثم إلى مرحلة القبول بحل الدولتين على أراضي 1967 فإلى مرحلة القبول بحكم ذاتي شكلي والقبول بنزع سلاحها كمقاومة والبقاء عزلاء تحت رحمة الكيان نعيشه اليوم، بعد حرب قذرة استعملت فيها كل الأساليب القبيحة غير الأخلاقية وغير الإنسانية من إغلاق للمعابر وتجويع وتعطيش وقتل وتشريد وتدمير للبنية التحتية في محاولة إرهاق المقاومة والشعب ولكسر الإرادة الفلسطينية وتحويل المطالبة بالتحرير إلى مجرد المطالبة برغيف الخبز والعيش، مجرد العيش أو دفعه إلى التمرد على المقاومة، وهو إن كان ينبئ عن جوهر كيان عنصري يمارس التعذيب المادي والمعنوي في إطار ممنهج للوصول لأهداف محددة فهو لا يحجب حقيقة كون الكيان يعتمد على دراسات عميقة وعلى شبكة خبراء وعلى نقاش سياسي وعمومي مفتوح بجسم صحافي حر في “نظام ديموقراطي داخلي بشكل أو بآخر “ونظام قضائي قوي كل ذلك يتيح التحرك وفق خطة مدروسة مع شبكة دولية توفر له الحماية والدعاية جعلته يكسب جل معاركه التفاوضية، ولكن في حرب الطوفان وبفضل بناء الجدار المضاد من طرف المقاومة الذي جعل الكيان المحتل يعاني ويألم ويستنجد ويصرخ، وبفضل وعي المقاومة الفلسطينية عبر دروس الماضي التي تضع في حسابها النظريات والتجارب السابقة التي لا تكتفي بحساب كلفة الحرب بل تجعل في حسابها كيفية إدارة مرحلة “السلام” والمفاوضات، وذلك بفضل بنية تنظيمية قوية أغنتها حنكة ميدانية ذات بعد تربوي روحي عال، وبفضل تنسيق فصائلي كبير وبفصل الصمود الأسطوري للمقاومة وللشعب الفلسطيني في غزة، وهو ما جعل المقاومة تقلب الطاولة على هذا الكيان الأخطبوطي، وذلك حين انفتح العالم كله على ما يقع عبر تقديم المقاومة الصورة الصادقة للواقع وتسويقها للعالم كله منذ بدء إطلاق الرهائن عبر شاشة الحقيقة الواقعية فقد شاهد العالم صورة إطلاق المرأة المسنة خوفيشيد دون مقابل في اليوم 17 من الحرب التي شوهدت وهي تودع أفراد المقاومة بكل محبة واحترام كما أنها أدلت بشهادتها للتاريخ بحكم تكوينها الحقوقي كناشطة من نشطاء السلام، والتي شكرت من خلالها المقاومة على حسن معاملتها، ثم انتقالا إلى صورة رسالة تركتها امرأة أخرى تؤكد فيها أن ابنتها عاشت ملكة في غزة بل وصل الأمر أن أطلقوا شابة أخرى تحمل كلبها الذي لقي معاملة ملائكية ليتحول الرأي العام العالمي إلى عكس مراد الصهاينة ويتجه الوجهة الصحيحة وتنقلب الرواية الصهيونية ضده وليظهر أن المقاومة وبقدر تحكمها في الأرض وتكبيدها العدو الصهيوني الخسائر الجسيمة، بقدر تحكمها وقدرتها الكبيرة في إدارة ما هو سياسي وإعلامي عبر تسويق الرواية الفلسطينية، التي تحارب من أجل حقها في تقرير مصيرها وفي الحرية والاستقلال ومناهضة الاحتلال، وليظهر أن الدعاية الصهيونية التي صورت الفلسطينيين مجرد وحوش بشرية على حد تعبير وزير دفاع الكيان الصهيوني كانت كاذبة وأنه بالعكس فإنهم بشر راقون يدافعون عن قضية عادلة، وجعلت كل شخص في العالم يراجع قصة فلسطين من جديد، بل يراجع دين الإسلام ويبحث عن كتاب اسمه القرآن الكريم.
بناء على ما سبق طرحه، فإن الصهاينة ينطلقون في تبنيهم للهدن من باب الاحتياط ومن باب احتياجات دولتهم لها فقط، فقد كان بن غوريون الذي أسس قواعد الكيان الصهيوني ينطلق من شعوره بأن اتفاقات الهدنة تحقق احتياجات إسرائيل الأساسية من اعتراف خارجي وتحقيق الأمن والاستقرار وهو يدرك حسب المحلل آيف شاليم، أن اتفاقات السلام معناها التنازل عن جزء من الأرض والقبول بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وهذا السلام بهذا الشكل لا يستحق دفع هذا الثمن. وفي نفس الوقت فإن المقاومة الفلسطينيّة أدركت هذا المنهج الصهيوني وهي غير مستعدة للتفاوض من أجل التفاوض ومن أجل مجرد العيش المهين فى قطاع محاصر يعيش على المساعدات الدولية وهي تضع في حسابها وهي تخوض طوفان الأقصى أن تفك الحصار المضروب على غزة وعلى الأقصى ومعاناة الضفة الغربية وأن تحسن ظروف العيش وهي تفكر في ضمان حرية الشعب الفلسطيني، لأن الأمر يتعلق بحق الشعب في تقرير مصيره وأن كل ما يسير في غير هذا الاتجاه هو مضيعة للوقت وأن يدها على الزناد من أجل التحرر الكامل من الكيان الصهيوني وقد استطاعت أن ترجع القضية الفلسطينية الى واجهة الأحداث ومن الباب الواسع وفق الرواية الفلسطينية المختصرة في قصة “مقاومة ضد احتلال”، ولأول مرة في التاريخ الوطني الفلسطيني يصدق العالم روايتهم وقصتهم ويظهر الوجه القبيح للكيان الصهيوني الذي دأب على تصوير نفسه كونه الضحية المظلومة وانكشف في عملية التبادل الاخيرة الوجه والمشهد المتخلف الإجرامي والبئيس لكيان يقتل الأطفال والنساء ويعتقل الأطفال والنساء…
إن الصهاينة بنوا الجدار الحديدي والفولاذي، وإن المقاومة خصوصا حركة حماس، التي وصف أفرادها الخبير العسكري والجيو سياسي الأمريكي سكوت رينر بكلمات دقيقة بعد جزمه بإلحقاها الهزيمة العسكرية بالكيان المحتل: “إنهم منضبطون جيدا، إنهم قادرون جيدا، إنهم متدينون جيدا…” قد نقضت هذا الجدار الذي حسبه الكيان المحتل منيعا عبر بنائها الجدار المضاد، مصداقا لقوله تعالى في سورة الحشر في الآية الثانية : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار. صدق الله العظيم والحمد لله رب العالمين.