يشن الكيان الصهيوني الحرب البرية منذ 27 أكتوبر 2023 بعد عشرين يوما من القصف الجوي والمدفعي العنيف على القطاع الغزاوي في حرب مجنونة منذ 7 أكتوبر 2023 أطلق عليها إسم السيوف الحديدية، خلفت لحد الساعة أكثر من 16000 شهيد وآلاف المعطوبين والمشردين، لم تراع فيها أدنى المعايير المعتمدة في قوانين الحروب أو في مساطر الاحتلال، بعد قطع الماء والكهرباء والغداء والدواء وضرب المساجد والكنائس والمدارس والمدنيين من سكان القطاع المنهك اقتصاديا والذي يعيش حصارا منذ 18 سنة متواصلة توسطتها مجموعة حروب، ملوحا بمجموعة من الخيارات منها التهجير المكاني إلى رفح المصرية وإخلاء غزة نهائيا لصالح الكيان أو نزع سلاح المقاومة وتسيير القطاع بإعادة احتلاله أو عبر إدارة عربية أو إقليمية أو بواسطة قوة فلسطينية أخرى، عبر حرب طويلة، وأنه لن يتوقف إلا باجتثاث المقاومة مستهينا بعدد قتلاه الذي لم يسبق له مثيل معتمدا بروتوكول حن بعل الذي يقضي بالقضاء على الأسرى وآسيرهم في شيء غير معتاد في العقلية الإسرائيلية التي كانت تحرص على جنودها بل على رفاتهم. فإلى أين تتجه الأحداث الحالية خصوصا أن المعلن أثناء الحروب في التصريحات ليس هو الهدف المخفي؟
باستقراء تاريخ الاحتلال سيتضح أنه لا شيء تغير في تدبير العدو الصهيوني الصراع مع الفلسطينيين، فنفس المنطق المتمثل في العمل الحثيث لتفكيك البنية الاجتماعية للشعب الفلسطيني ومحو تاريخه وطمس هويته، يستخدم منذ نشأة هذا الكيان العنصري الذي يتصرف بالعنف مع شعب فلسطين بدعم امبريالي غير محدود ، ولكن الجديد هو أخذه تفويضا من تجمع “الشعب” الصهيوني والغرب بإبادة قطاع غزة وفق تعبير المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيي المناصر لقضية فلسطين، فمنذ الحرب الأولى أو ما يعرف بحرب النكبة عمل الكيان الصهيوني على طرد أغلب السكان الأصليين من أراضي 1948 وعنوان تلك المرحلة الكبير هو التهجير والشتات وإخلاء أراضي 1948 من أغلب سكانها الأصليين، مع تسجيل لغز هزيمة جيوش العرب الغامض أمام عصابات الصهاينة، ولغز عدم تأسيس دولة فلسطين على المساحة التي لم تحتل وتقدر بنصف مساحة فلسطين التاريخية تقريبا برفض من الجامعة العربية وضم الضفة الغربية للأردن وضم غزة لمصر، وفي حرب 1967 سيحتل قطاع غزة والضفة الغربية والجولان السوري، وعنوان هذه المرحلة هو هزيمة الجيوش العربية وإخراج وطرد المسلحين الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى دولة الأردن وجعلها منطقة منزوعة السلاح.
وبعد الاستقرار في الأردن سيعمل الكيان على محاولة تصفيتهم ولكن الفصائل المسلحة ستكبد العدو الصهيوني خسارة عسكرية مدوية في معركة الكرامة عام 1968 بشراكة مع القوات الأردنية والتي سيكتب فيها المجد التاريخي للسيد ياسر عرفات. لتتحول حركة فتح من مجموعة مسلحة صغيرة إلى حركة تحرر وطني بعد انضمام فصائل أخرى مسلحة لها، كمنظمة طلائع الفداء وجبهة ثوار فلسطين وغيرها وهو ما أثر على ميزان القوة داخل الأردن لصالح فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية على حساب نظام الأردن، خصوصا وأن فتح تحظى بدعم كبير في المنطقة العربية وذات جالية أو لاجئين لا يستهان بعددهم.
بعد هذه المعركة سيفكر الكيان الصهيوني في طريقة للتخلص نهائيا من هذا التواجد الفلسطيني الرابض في خاصرته وستعمل المخابرات البريطانية والأمريكية والموساد الصهيوني على تدبير مؤامرة رغبة الفلسطينيين في قلب نظام الحكم، وستفتعل حربا بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الأردني في أحداث أليمة تعرف بمذبحة أيلول الأسود، والواضح أن المؤامرة خطط لها بعناية كبيرة، وتقدر المصادر أعداد ضحايا ”أيلول الأسود“ وامتداداته الماضية والمستقبلية بعشرات الآلاف، من بينهم زهاء أربعة آلاف قتيل أغلبهم من جانب الفدائيين الفلسطينيين.
وحيث إنه باستقصاء الوثائق التي تواكب تلك المرحلة فإن التحرك الأردني جاء بعد طمأنة الولايات المتحدة الأمريكية له باستعدادها للتدخل عسكريا في حالة تحرك سوريا أو العراق لمساعدة الفصائل المسلحة الفلسطينية، بعد أن استبعدت الولايات المتحدة الأمريكية خيار تدخل الكيان الصهيوني إلى جانب الأردن، لأنه سيجلب التعاطف العربي والدولي مع منظمة التحرير الفلسطينية. وانتهت المواجهة بإخراج الفصائل الفلسطينية من الأردن وانتقالها إلى لبنان سنة 1970، وعنوان المرحلة التآمر العربي مع الصهيوأمريكان لذبح المقاومة وتصفيتها.
وفي لبنان ستكون المقاومة الفلسطينيّة التي استفادت من اتفاق القاهرة سنة 1969 والذي يخول للفصائل الفلسطينية امتلاك السلاح مما أصبحت معه الشغل الشاغل للكيان الصهيوني، ومرة أخرى سيتم تدبير المؤامرة بتخطيط أمريكي صهيوني بالتنسيق مع بعض عملائها في أرض لبنان، وسعت إلى توريط المنظمة في الحرب الأهلية اللبنانية التي استغرقت منذ 1975 إلى سنة 1982 التي اشتعلت بما سمي بحادثة البوسطة عندما قام مجهولون بمحاولة اغتيال رئيس حزب الكتائب الذي نجا من المحاولة ولقي أربعة أشخاص حتفهم. وردت ميليشيات حزب الكتائب على محاولة الاغتيال بالتعرض لحافلة كانت تقل أعضاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة – إلى مخيم تل الزعتر وأدى الكمين الذي نصبه مقاتلوه إلى مقتل 27 شخصا.
وهذا الحادث دبر لإشغال المقاومة الفلسطينيّة بأهداف أخرى، وتشتيت صفها، وإضعاف جيشها بانخراطها في حروب جانبية، ولتكون محط كره من الشعب اللبناني.
بعد ذلك تدخل الكيان الصهيوني بجيوشه الجرارة لغزو لبنان سنة 1982، بعد أن تعذر القضاء على المقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية، بقيادة وزير الدفاع السفاح ارييل شارون في محاولته تحقيق مجموعة أهداف؛ على رأسها ضرب المقاومة الفلسطينية التي بقيت قوية واشتد عودها بعد سنوات من هذه الحرب الأهلية وتشعبت علاقاتها وأصبحت بحجم دولة داخل دولة بحكم كون المسلحين الفلسطينيين يشكلون ثلث عدد القوات العسكرية في لبنان بأرقام تقدر بأكثر من عشرات الآلاف من المقاتلين المدربين بالإضافة إلى أعداد مهمة من المسلحين المتحالفين معهم من اليسار اللبناني والتيار الإسلامي وغيرهما لتشكل نصف القوة المسلحة في لبنان، وهكذا تدخل الكيان الصهيوني في 21 أبريل 1982 بقصفه موقعا لمنظمة التحرير وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بالرد بقصف صاروخي لشمال إسرائيل، واستمر هذا القصف المتبادل خصوصا بعد ادعاء الصهاينة محاولة الفدائيين الفلسطينيين اغتيال شلومو أرجوف سفير الكيان الصهيوني في لندن في 3 يونيو 1982، فقامت “إسرائيل” بقصف شديد لمنشآت ومواقع تابعة لمنظمة التحرير في بيروت.
وقد تم فيما بعد إبرام وقف إطلاق النار بين إسرائيل وقوات منظمة التحرير الفلسطينية بإشراف فيليب حبيب. إلا أن الكيان الصهيوني بقي متوجسا من تجمع قوات منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان منذ وقف إطلاق النار، والذي اعتبرته تهديدا لأمنها.
بعد ذلك سيتم الاتفاق على إخراج جميع المقاتلين بعد موافقة منظمة التحرير الفلسطينية على خطة الجامعة العربية لوقف القتال في لبنان وإجلاء المقاتلين الفلسطينيين عن بيروت، عزز باتقاق 7 غشت بتنسيق لبناني فلسطيني أمريكي يقضي بانسحاب الأطراف من بيروت ومغادرة القيادة الفلسطينية إلى تونس، وبتعهد شخصي من رونالد ريغان لضمان سلامة وحياة عائلات المنقلين من لبنان، وهكذا توزع آلاف مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية المنقلين على تونس والأردن والعراق واليمن الجنوبية واليمن الشمالي والسودان والجزائر وسوريا… وعنوان المرحلة: المؤامرة العربية الصهيوأميركية على المقاومة الفلسطينيّة.
وقام الكيان الصهيوني في 16 سبتمبر 1982 بحركة غادرة بعدما قامت القوات الإسرائيلية بمحاصرة مخيمات صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين، وسمحت بدخول حوالي 350 عنصرا مسيحيا إلى المخيمات تحت ذريعة البحث عن مقاتلين فلسطينيين وتم ذبح ما يقارب 3000 مدني فلسطيني أعزل.
وخلاصة هذه المرحلة بعد إجلاء أغلب المقاتلين الفلسطينيين من لبنان وخصوصا قياداتهم السياسية والعسكرية، هو أن القضية الفلسطينية تاهت وعاشت مرحلة فراغ سياسي مهول، ليصرح رئيس وزراء الاجتياح الصهيوني مناحيم بيغن، والذي كان متشبعا بالتدين وكاد يدعي النبوة في زمن تغول الصهاينة، وفق ما نشرت صحيفة معاريف في 20 غشت 1982 مقطعا من محاضرة بكلية الأمن القومي وهو يقول: “نستطيع أن نتوقّع الآن أن إسرائيل ستنعم بأربعين عاما من السلام” معزيا ذلك إلى ابرام اتفاقية السلام مع مصر، وعدم توقّع أي استهداف من سوريا، إضافة إلى استنزاف المقاتلين الفلسطينيين الذين تلقّوا الضربة في الأردن وإجراءات تنقيلهم من لبنان.
وتشاء الأقدار أن تندلع انتفاضة أطفال الحجارة في غزة عام 1987 لتعيد النقاش حول القضية الفلسطينية لتبدأ المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية خصوصا بعد اعتراف ياسر عرفات بالقرار الأممي 242 عام 1988 والذي يؤكد على ضرورة عيش إسرائيل وكل دولة داخل حدود آمنة، لينطلق مسلسل أوسلو بتوقيع الاتفاقية عام 1993 بواشنطن، ولتتخذ القضية الفلسطينية مسارين؛ مسار المقاومة في غزة ومسار المفاوضات في الضفة الغربية على أرضية أوسلو الهشة والتي لم تراوح مكانها، وسيتكرس هذا الخيار بعد خروج الكيان الصهيوني من قطاع غزة عام 2005 وسيطرة حركة حماس عليه حينها. وهكذا ستعمل دولة الكيان الصهيوني على محاصرة القطاع بشدة وإقامة الجدار العازل مع توجيه ضربات موجعة وقاتلة للمقاومة بين فترة وأخرى لتصفية المقاومة، وهكذا في سنة 2006 شنت دولة الكيان حربا سمتها أمطار الصيف على إثر أسر المقاومة لجلعاظ شاليط، ثم شنت حربا أخرى أواخر 2008 وبداية 2009 سمتها عملية الرصاص المصبوب واستغرقت 23 يوما أسفرت عن 2430 شهيدا كان هدفها وفق إعلان الحرب إنهاء حكم حركة حماس والوصول إلى مكان احتجاز جلعاظ شاليط، وفي سنة 2012 شنت عملية عامود السحاب تحت شعار تدمير مخازن السلاح في القطاع واستغرقت 8 أيام، وفي سنة 2014 شنت حربا أكثر ضراوة استغرقت 51 يوما تحت شعار تدمير أنفاق المقاومة وأسفرت عن استشهاد 2322 فلسطينيا، وفي سنة 2019 ستشن حربا عدوانية جديدة تحت شعار محاربة الإرهاب خلفت استشهاد 34 فلسطينيا، ثم حرب 2021 بعد تدنيس المسجد الأقصى واستغرقت 13 يوما واستشهد فيها أكثر من 200 فلسطيني.
بعد سلسلة الحروب المدمرة هذه ستتكرس عقدة الكيان من غزة ثم من حماس، فغزة هي ذاكرة الشعب الفلسطيني، فيها الفلسطيني الأصيل للقطاع وفيها كذلك ذاكرة آلام المهجرين وهي تشكل عصارة فلسطين من مهجري أراضي 1948، وبها تم تأسيس أغلب الحركات المقاومة، فمنها أغلب مؤسسي فتح كحركة مقاومة تؤمن بالكفاح المسلح لتقرير المصير، وبها كان ميلاد مؤسس حماس، وأن الانتفاضة الأولى كانت في غزة، وفيها تأسست حركة حماس، وعلى إثر تأسيسها شن الكيان الصهيوني حملة اعتقالات واسعة تحت شعار اجتثاث حماس سنة 1988، وبعد أربع سنوات ستتم عملية الإبعاد لمئات الكوادر والأطر؛ منها إلى مرج الزهور بلبنان من أجل تقويضها، وفي سنة 1996 سينعقد مؤتمر شرم الشيخ في أوج اندفاع وإيمان السلطة الفلسطينية باتفاقية السلام من أجل إقامة حل الدولتين لاجتثاث حماس والمقاومة وستشن الدولة الصهيونية على القطاع مجموعة اعتداءات؛ أولاها سنة 2000 سمتها أيام الندم بمائة دبابة أسفرت عن استشهاد 70شهيدا وفي 2004 اغتالت آلة الغدر الصهيوني الشيخ أحمد ياسين، وفي أقل من شهر اغتالت القائد عبد العزيز الرنتيسي، والملاحظ أن المقاومة كانت تشتد بعد كل حرب وتتجذر في وجدان الشعب الفلسطيني، وخصوصا في ظل الأوضاع غير الآمنة للضفة الغربية التي تعرف اعتقالات يومية واقتحامات وهدم للبنايات ومصادرة للأراضي وتوسيع للاستيطان ومصادرة للحريات، مما يعزز خيار المقاومة لدى مكونات الشعب الفلسطيني.
إن ما تعيشه مرحلة الكفاح الفلسطيني اليوم وفق السرد التاريخي أعلاه لا يدع مجالا للشك أن الصهاينة هجروا الشعب الفلسطيني وتآمروا على المقاومة، ولم يكن الكيان الصهيوني سيد السلام حين وقع اتفاقية أوسلو. إن ما تعيشه المرحلة مع الوعي بدروس التاريخ هو عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية من جديد، ثم عودتها إلى يد أهلها من داخل أرضها بغض النظر عن دعم ذلك الطرف من عدمه، وخلق معنى جديدا لم يكن من ذي قبل وفق منظور المحلل عبد الحليم قنديل، زاد من تأثيره أن آخر الإحصائيات تشير لأول مرة في تاريخ الاحتلال إلى كون نسبة عدد الفلسطينيين تجاوزت عدد الصهاينة بنسبة 51 في المائة، وهو مؤشر مخيف للصهاينة في ظل استحضار خصوبة المرأة الفلسطينية وتحقيق النصر في حروب غرف النوم وفق تعبير أحد المؤرخين الصهاينة، والذين ينظرون إلى ازدياد نسبة الفلسطينيين نوعا من الحروب تدار بشكل آخر، ولهذا يتعجب العالم من تعمد استهداف الكيان الصهيوني في غاراته الحربية النساء والأطفال. كل هذا في ظل محدودية النسل لدى الكيان، وجفاف المنابع التي كانت تزود الكيان بتدفق المهاجرين كان آخرها هجرة مليون إنسان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1990، وفي ظل وجود أعداد كبيرة من الصهاينة ذات جنسية مزدوجة مستعدة لمغادرة الكيان الصهيوني، وهو ما يشكل نوعا من الخلل الاستراتيجي لدى الكيان الصهيوني.
وإذا كانت صبيحة 7 أكتوبر أعلنت السقوط العسكري والاستخباراتي للكيان الصيوني، فإن استمرار الحرب سواء الجوية أو البرية وخصوصا بعد منع الماء والكهرباء والدواء والغذاء على السكان واستهداف الأطفال والنساء واقتحام المستشفيات واحتجاز الأطقم الطبية ومصادرة الجثامين وضرب المدارس والكنائس والمساجد، يعلن السقوط الأخلاقي والديبلوماسي والإعلامي للكيان الصهيوني، وليتجلى أنه مع استمرار الحرب وازدياد خسائره البشرية والاقتصادية سيزداد الضغط على نتنياهو وفريقه، ولعل مناقشة الصحافة العبرية لقصف الكيان الصهيوني للحفل الراقص، أو مناقشة حرق نتنياهو للوثائق التي تتحدث عن التدابير الأولى التي اتخذت عقب ضربة السابع من أكتوبر وغيرها كلها مؤشرات تصب في إطار فشل الحرب على غزة وعلى اقتراب سقوط نتنياهو الشخصي، وعلى سقوط المشروع السياسي للكيان الصهيوني المتمثل في التطبيع وفي كونه نموذجا ديموقراطيا في محيط عربي وإسلامي همجي، ولعل هذا الضغط يفسر بكون هذه الحرب المتخذة تغيب عنها خارطة الطريق من إجراءات وأهداف قصيرة وبعيدة المدى، وهو ما يفسر حجم الزيارات التي قام بها الأمريكيون لدول جوار فلسطين والدول المؤثرة لبحث خيار الترحيل وغيره من الخيارات، كما أن الضغط نتج عن تضارب ما هو سياسي يمثله نتنياهو الذي يدفع بالأمور للتأجيج حفاظا على رقبته من مقصلة القضاء ودفاعا عن وجهة نظره المتطرفة، وبين التوجه الذي يمثله الجيش بصفته هو من سيقود المعركة ميدانيا والذي يطلب الوقت لفعل ما يجب، مما أخضع مسؤوليه للابتزاز من طرفه باتهامهم بكونهم لم يكونوا في أتم اليقظة والاستعداد للضربة وهو ما عجل بدخول الحرب البرية، وهو ما يفسر حجم الخسائر البشرية المرتفع وحجم الفشل الاستخباراتي بعد دخول الحرب البرية والذي ينم عن عدم معرفة مطبق بميدان غزة، كما يظهر في شكل ردود أفعال وتصريحات فريق عمله السياسي، مما جعل أحد وزرائه يهدد بإلقاء قنبلة نووية على القطاع، وهو ما جعله يتخذ تدابير في حقهم ومنعهم من الإدلاء بأي تصريح للصحافة، كما أن هذه الحرب أعلنت السقوط العربي والإسلامي الرسمي على مستوى المواقف السياسية والديبلوماسية بصفة أساسية، وعلى مستوى عجزهم عن فك الحصار الإنساني على القطاع وهم الذين يملكون حدود برية مع قطاع غزة، وعلى مستوى وزنهم العالمي المهزوز حينما خاطبهم نتنياهو الذي هزمته المقاومة بلزومهم الصمت على إثر انعقاد اجتماعهم المتأخر زمانيا في الرياض.
وفي الختام إن عالم الاجتماع ابن خلدون تحدث عن تغير الأجيال، وفيها أن أقل ما يأتي فيها هو فناء جيل ومجيء آخر بعصبية اقتدروا بها على السعي والمطالبة والتغلب، وقد استنبطها من القرآن الكريم حين تحدث عن تيه بني إسرائيل أربعين سنة، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية 26: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، ونفس الأمر كان يشير إليه الشيخ أحمد ياسين حين تحدث عن انتفاضة أطفال الحجارة عام 1987 والتي قامت بعد أربعين سنة من الاحتلال، وبهذا المنطق فطوفان الأقصى جاء ممهدا لنهاية الأربعين عاما الثانية؛ التي يحكي فيه الجيل الجديد بلغة أخرى بدايتها طوفان وما بعدها طوفان منسجما مع قول الشاعر الموريتاني بأن التاريخ استيقظ بعد سبات عميق وأن حرب التحرير بدأت وأن كل ما بعد الطوفان طوفان في أبيات من قصيدته:
حرب التحرير بالطوفان، قد بدأت
فكل ما سيلي الطوفان طوفان
اليوم يستيقظ التاريخ، كم سنة
مرت من الدهر، والتاريخ وسنان
تزهر الشهادة حلما في عيونهم
فكلهم لفرات الموت ظمآن