مقدمة
إن النصر في مفهومه ومقوماته يختلف باختلاف الأسس والعقائد التي بنت أرضيته وتحركت عليها قواعده، وقد يكون عند البعض: قهر العدوّ وإذلاله بقبضة من حديد أو بضربة لازب تجعل من المنتصر سيّد الموقف والمالك لكل مفاتيح قوّته، ولا يتصور انتصار مع القتل والتهجير والتجويع، أو مع استبداد وظلم باد قد يطبع كل معاني الإنسانية والقيم والرحمة والأخلاق في الميزان الأخف والأهون على النّاس، فهل لطوفان الأقصى معان من معاني ومقوّمات النصر؟
من معاني النصر
يقول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (غافر: 51)؛ إخبار إلاهي بأنّه سبحانه وتعالى تكفّل بنصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقد يتبادر إلى الذهن أن النصر المقصود هو غلبة الرسل والمؤمنين وانكسار العدو انكسارا لا رجعة فيه، كيفما كانت الأسباب والاستعدادات والقوى، لأن الله سبحانه وتعالى وهو القوي القاهر فوق عباده تكفل بهذا النصر، لكنّ التاريخ يحكي غير هذا، فهناك من الأنبياء من قتلهم قومهم، مثل سيدنا يحيى وزكريا عليهما السلام، ومنهم من أخرج من بلده كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما يرويه التاريخ عن انهزام المؤمنين في بعض المعارك كغزوة أحد، وغزوة الأحزاب التي بلغت فيها القلوب الحناجر من الشدّة، حيث اجتمع أهل الكفر على أهل الإيمان وكان حصارا شديدا أصبح فيه المسلمون كجزيرة منقطعة وسط طوفان يتهددها، حتى أُحكمت سنّة الله في النّصر لتبقى الدروس التاريخية التي صاغها القدر عظة يُفهم منها معاني النصر وأسبابه وكيفية بنائه.
وقد يكون للنصر معان عديدة، ذكرها القرآن في صور بلاغية ترى من خلالها حكمة الله وجميل قدره ووفاءه بعهده لرسله وللمؤمنين، وهي وإن اختلفت أشكالها وأقدارها لكنها تبقى الطريق الصحيح والعبرة الأقوى لفهم سنن الله في النصر والتمكين؛ من هذه المعاني: نصر التمكين في الأرض كما كان الأمر مع سيدنا داود وسليمان عليهما السلام، ونصر بإهلاك العدو كما كان الأمر مع سيدنا نوح عليه السلام، أو انتصار للعقيدة والإيمان في نموذج صارخ بسلامة سيدنا إبراهيم عليه السلام من النار، أو نصر بالحجة والبرهان حيث يقول الحق سبحانه: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (الانعام: 83). فأين نضع طوفان الأقصى من سنن الله في الكون؟ وما هو وجه الانتصار فيه مع كل هذا القتل والتهجير والتجويع، وتكالب الأمم على فئة مؤمنة قليلة العدد والعدّة، إلا من إيمان بالله يضع رجلها على طريق السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، الذين أوذوا وعُذّبوا ولم يعطوا الدنيّة في دينهم حتى جعلوا التاريخ يحكي عن صنيعهم وبنائهم وشموخهم؟
طوفان الأقصى على طريق صناعة النصر الشامل للأمّة
النصر الشامل والعام للأمة على الأعداء هو نصر تمكين للمؤمنين وللإسلام في الأرض، حتى يستنير أكثر أهل الأرض بالإيمان، فتكون الغلبة والقوة والعدّة لهم، ويجعل الله لهم ودّا في الأرض عدلا وإحسانا، وكل أنواع النصر التي رأينا سابقا هي من صنع الله وحده، وثقة المؤمنين بنصر الله ووعده هي زاد الطريق، ومفتاح الأمل. وبشارة التمكين لهذه الأمة وللمؤمنين لا بدّ أن تبقى شاخصة في أذهان المجاهدين ومشاعرهم وإن تأخر هذا النصر وهذا التمكين، والذي قد يتأخر لأسباب كثيرة يجعل الله منها محطات بناء ويقظة وشحذ للهمم ووعي بمقتضيات هذا النصر وهذا التمكين.
يشرح الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه سنّة الله أنّ من خصوصيات تاريخ هذه الأمة المباركة أنها وُعدت بالنصر والاستخلاف في الأرض متى تحققت لها شروط سنة الله. قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا (سورة النور الآية 55). لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولما كان من الأمة انتكاسات وانكسارات وانهزامات، ولو شاء لرفع قانون الأسباب أمام رسله وأوليائه. لكنها سنته التي لا تتبدل، ووعده المشروط بالإيمان والعمل الصالح، لا استخلاف ولا تمكين إلا بتوفرهم 1.
فوعْدُ الله بالتمكين والنصر مشروط بالإيمان والعمل الصالح، فإذا كانت الأمّة لم ينضج بعد إيمانها كأمة وليس كأفراد، ولم تحشد طاقاتها، ولم تتجرد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله عزّ وجل حتى تعلم أن لا ملجأ إلا الله، وإذا كان زيف الباطل الذي يُحارب لم ينكشف للناس، ومازال يجد له أعوانا وأنصارا، فإنّ البيئة العامة لتنزيل النصر والتمكين لم تستو بعد، ولا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمّة المؤمنة، وسيظل الصراع قائما، وتتضاعف التضحيات والآلام لتتضاعف معها الأجور وصناعة الرجال والنساء القائمين بالحق، المنافحين عن الدين والعرض والمقدسات، الباذلين في سبيل الله النفوس والمهج والأرواح، حتى ينكشف الباطل فيصبح لا غبار عليه أمام القاصي والداني، ويصبح الحق ظاهرا للعيان ينافح عنه القريب والبعيد، حينئذ يأذن الله بتنزيل نصره وتمكينه للطائفة المؤمنة التي بذلت وصبرت وفهمت أن ثمن التمكين باهظ، وكلفته غالية، وشرطه الصلة بالله وحده التي لا تلابسها صلة أخرى ولا طلب آخر سوى وجهه سبحانه، حينئذ يتحقق النصر بتحقق الشرط الذي وعد الله بتحققه، نصر الفئة المؤمنة والتمكين لها في الأرض.
وإذا عدنا لطوفان الأقصى كحدث كبير ومهم على طريق صناعة هذا النصر، حدث زرع في الأمة ووجدانها الكثير من الأمل والتفاؤل، وأحيا الكثير من المعاني فيها، فنقلها من حال إلى حال؛ من حال الاستكانة إلى حال التحرك والمدافعة، ومن حال التبعية المطلقة إلى حال البحث عن قدم العزّة والشهود الحضاري في العالم. خلق طوفان الأقصى حالة من الثقة في الذات والعزّة بالنفس والدين، وحالة من الصمود أمام الاستكبار والظلم، ورفع معنويات الأمة من أقصاها إلى أقصاها فاحتشدت الشعوب وراء الحدث مؤيدة ومفتخرة ومؤدية واجبها الشرعي بالنصرة، بل كان لطوفان الأقصى دور كبير في فضح الباطل المتمثل في الاحتلال الصهيوني وإظهار حقيقته الإجرامية البشعة للعالم، وفضح حتى المستبدين والمستكبرين من بني جلدتنا الذين ظلوا زمانا يتغنون بحق الشعب الفلسطيني في التحرير والمقاومة، بل كان لطوفان الأقصى شرف إحياء معاني الانتماء لهذه الأمة العظيمة.
هذه المعاني الجليلة التي كان لطوفان الأقصى دور كبير في إحيائها، بل وإرسائها في أرض واقع الأمة، رغم التضحيات الجسام والخسارات المادية التي هي في ميزان الحسابات المادية لا تعوّض، هي من الأسباب التي تفتل في إعادة بناء مجد الإسلام والتمكين لأهله وللطائفة المؤمنة التي وعد الله بنصرها، وطوفان الأقصى بكل تداعياته هو إن شاء الله من الشروط التي تهيئ لتنزيل النصر والتمكين لهذه الأمة، حيث من شأنه أن يخلق تحولات استراتيجية على مستويات عدّة، سواء على مستوى الأنظمة العالمية والعربية أو على مستوى المؤسسات والنخب، وأعاد إلى الواجهة معنى التدافع الحقيقي بين الظلم والعدل وبين الحق والباطل، وأحيا في وجدان الأمة معنى الثقة بالله ومعيته ورعايته، وإن كانت الصورة قاتمة الآن بكثرة الدماء والدمار والأشلاء، لكنها على خط الزمن وخط بناء الأمم هي إشراقة فرج قريب وبارقة أمل على عودة عزّة الأمة والتمكين لها، وقد بدت تلوح في الأفق معاني النصر ومعاني بناء الفرد والأمة، ومعاني العودة إلى جادة الإيمان والاعتزاز بالله تعالى، طوفان الأقصى هو جذوة ستشعل فتيل العزة و الكرامة، وسيغرق هذا الطوفان بإذن الله كل الظلم والاستبداد على طريق إعادة بناء الأمة برجوعها إلى الله وكتابه، طوفان الأقصى هو حلقة أولى في سلسلة العودة والبناء لمعاني العزّة والكرامة، هو حلقة في طريق صناعة النصر الشامل للأمة بإذن الله، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ (سورة الروم: 4).