في أوج الهيمنة الصهيونية 1 وشعورها بامتلاكها اليد الطولى في العالم، وفي أوج نشوة التطبيع والعبث بالأنظمة العربية، وفي ذروة الهجوم الإعلامي والتشريعي على ما تبقي من الفطرة السليمة بترويج الإباحية والشذوذ الجنسي وسَنِّهما… جاء طوفان الأقصى ليدشن التمرد على سياسة العبث والتبعية و(دين الانقياد) 2، وليُكسِّر كل قواعد المنطق المادي للحروب. فأذهل كل المحللين، ودشّن موجة تغيير سريع وعميق في العالم.
ثم جاء الأداء المعجز للمقامة، والصمود الأسطوري لحاضنتها الشعبية ليهزَّا مشاعر الملايين حول العالم، وليطرحا بإلحاح سؤال: أية تربية أنتجت هؤلاء؟ ومن أية تجربة يستوحون؟
ولوجاهة السؤال جاءت فكرة المقارنة، ليس من باب الندية، بل من باب مقارنة الأصل بنسخة منه.
1) طوفان الأقصى: حقيقته وسياقه الداخلي ونتيجته
حقيقته: طوفان الأقصى ضربة خافضة رافعة؛ ضربة قدرية ذات مفعولين
المفعول الأول: تحطيم الشعور بالهيمنة والتفوق لدى الصهيونية العالمية ولوبياتها وأتباعها، ونقلها من دائرة الاعتقاد بأن لها اليد الطولى في العالم، إلى مربع الشعور بتهديد الزوال. فالمفعول الأول هو كسر ثقة الصهاينة بأنفسهم. ومما يعْتَمِلُ في النفوس يبدأ التغيير. والهزيمة النفسية هي أم الهزائم.
المفعول الثاني: إعطاء دفعة قوية للحركات الإسلامية وحركات التحرر، والترسيخ، بالدليل العملي، لفكرة أن قوة الإرادة، والأخذ بالمستطاع من الأسباب، والتوكل على الله، كفيل بالحد من تأثير الفرق الهائل في الإمكانيات العسكرية بيننا وبين الغرب. وأنه (ما عجز بدن على ما قدرت عليه نية).
سياقه الداخلي: طوفان الأقصى تتويج لمرحلة من التربية والتنظيم
طوفان الأقصى ليس وليد دعوة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا انتفاضة جماهير، ولا ردة فعل حماسية على ظلم، بل هو تتويج لمسيرة تربوية ذات برنامج أنتجت رجالا مصمِّمين على إحدى الحسنيين، ولبناء تنظيمي متراصّ عجزت الإغراءات والتهديدات والتكنولوجيات عن اختراقه، وتخطيط استراتيجي محكم قاوم كل أشكال الحصار الخانق بالعلم والعمل والتخطيط، وبشبكة أنفاق، ثم أذهل العالم في صبيحة 7 أكتوبر.
نتيجته: طوفان الأقصى منعطف في تاريخ الإنسانية
إن تداعيات طوفان الأقصى على نفسية الإسرائيليين، من المواطن العادي إلى قادة اللوبيات في العواصم الغربية، ترشحه أن يكون بداية انهيار العلو الثاني لليهود، ذلك العلو الذي يدعم الحكام المستبدين، ويموِّل الثورات المضادة لتحرر الشعوب، ويؤخر الولادة الثانية للأمة الإسلامية التي بدأت إرهاصاتها مع ديناميكية الحركات الإسلامية، والصمود الأفغاني، وثورات الربيع العربي…
وما نشاهده اليوم من وحشية، يصفّق لها الاستكبار الغربي، هو من أعراض مقاومة الوحش لسكرات الموت، وما نعيشه من ألم ودماء في صفوف المستضعفين من المسلمين، هو من أعراض المخاض لولادة عالم جديد، فكما قال غرامْشي: “العالم القديم يحتضر، والجديد يتأخّر في الولادة، وما بين العتمة والضوء تظهر الوحوش”.
2) السيرة النبوية كمصدر إلهام للحركات التغييرية
السيرة النبوية هي تأريخ لأسرع وأعمق وأوسع حركة تغييرية شهدتها الإنسانية؛ الأعمق من حيث أثرها في القلوب، والأسرع من حيث المدة الزمنة للتغيير، والأوسع من حيث المجال الجغرافي للانتشار. وهي تأريخ لحركة تغييرية قادها مستضعفون؛ فرسول الله ﷺ جاء مجردا من كل الإمكانيات المادية، حتى قال عنه زعماء قريش: لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31]، وقالوا عن أصحابه كما قال قوم نوح ﷺ: مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ [هود: 27]، أما مقارنة بإمبراطوريتي الفرس والروم، فقد كان العرب مجرد بدو في الهامش تأكلهم الحروب القبلية، وقبل غزوة بدر كان المسلمون لا يحلمون إلا بانتصارات رمزية من خلال إنجازات الآخرين؛ فحين نزلت غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 2-3] فرحوا وظنوا أن النصر الذي سيحتفلون به هو انتصار الروم على الفرس، أي انتصار أهل الكتاب على أهل الشرك، لكن في ليلة بدر، وفي غَمْرَةِ الفَرحِ بالنصر، جاء خبر انتصار الروم وكان باهتا وهامشيا.
3) مسوغات المقارنة بين السيرة وطوفان الأقصى
قد يصعب على البعض عقد مقارنة بين تجربة قادها معصوم مؤيّد بالوحي وتجربة قادها رجال ينظر إليهم بعين مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا [هود: 27]، بل ما نراك إلا رجلا دوننا، إن كان هؤلاء القادة كالشيخ أحمد ياسين (المقعد) رحمه الله. لكن قول رسول الله ﷺ: مثَلُ أُمَّتي مثَلُ المطَرِ؛ لا يُدْرَى أوَّلُه خيرٌ أمْ آخِرُه! 3 يحفز لعقد مقارنات بين كل ما هو دون النبوة. وفي البشارات النبوية عدة مسوغات شرعية لذلك منها:
البشارة الأولى: قابلية المنهاج النبوي للتجدّد
فالمنهاج النبوي بما هو (السنة التطبيقية العملية النموذجية، التاريخيةُ بعدُ، البشرية المتجددة في الزمان) 4 قابل للتجدّد، ودليل تجدده البشارة النبوية (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) 5. فكما أن لبني إسرائيل علوين مقرونين بالإفساد في الأرض، مصداقا لقوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 4]، فإن لهذه الأمة علوين مقرونين بإقامة الخلافة الراشدة.
البشارة الثانية: إخوان رسول الله ﷺ من بعده وحواريو عيسى ﷺ من المسلمين
إذا كان الله قد قَيَّضَ السابقين الأولين من الصحابة للتمكين الأول لهذه الأمة، مصداقا لقول تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62]، فإنه تعالى قد ادَّخر للتمكين الثاني رجالا وصفهم رسول الله ﷺ بإخوانه حيث قال: (ودِدْتُ أنِّي قد رأيْتُ إخواننا، فقالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض) 6. وفي حديث آخر قال: (والذي بعثني بالحق ليجدن ابن مريم في أمتي خلفا من حواريه) 7.
البشارة الثالثة: وعد الآخرة
وعد الآخرة هو وعْدُ المَرَّةِ الآخِرَةِ لعلو بني إسرائيل في الأرض، ويبدأ بالإتيان بلَفِيف منهم وهو الجماعات من قبائلَ شتّى؛ قال الله تعالى: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء: 104]، ويتلو ذلك الإتيان انتصار على اليهود فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء: 7].
وفي الحديث: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا اليَهُودَ، حتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وراءَهُ اليَهُودِيُّ: يا مُسْلِمُ، هذا يَهُودِيٌّ وَرائي فاقْتُلْهُ) 8، وزاد مسلم: (إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود).
وعباد لله سينطق الحجر والشجر نصرةً لهم لا شك أنهم يستحقون المقارنة بإسوتهم.
4) بعض أوجه الشبه
إن أوجه الشبه كثيرة، وكل وجه يستحق أن يكون عنوان بحث مستقل، لذا اكتفي بذكر بعض العناوين مع رجاء أن ينبري البعض لإفراد كل عنوان بمقال أو كتاب.
من هذه العناوين:
. محورية التربية والتنظيم
. الصبر واليقين
. الشجاعة والإقدام
. الدعوة إلى الله بالحال والمواقف
. التأييد الرباني
خاتمة
إن طوفان الأقصى وما تأسس عليه من إرادة رجال المقاومة ونسائها، وثباتهم وصبرهم وأخلاقهم… أثبت بالدليل العملي أن المنهاج النبوي (تربية وتنظيما وزحفا) قابل للتجدد.
وإذا كان، ببثِّه الهزيمةَ النفسية، قد دشن بداية زوال الاستكبار العالمي الذي تقود الصهيونية، فهو ليس إلا بداية طوفان عام ما فتِئَ يحذر منه الإمام عبد السلام ياسين في كل كتاباته، بَدْءًا من رسالة (الإسلام أو الطوفان) التي وُجِّهت للحسن الثاني سنة 1974م، ومرورا بباقي الكتب، التي جَعلَ من غاياتها الدلالة على المنهاج النبوي، والتحذير من خواء ما بعد الطوفان، حيث قال: (ما هذا المكتوب كتاب جدل يجري معك في مسالكك لتعترف بكفاءته المنهجية. بل هو للتأسيس والتذكير على المنهاج النبوي) 9، وقال: (يندَكُّ ما كان يظنه الغافلون عن الله الجاهلون بسنـته في القرى الظالم أهلُها حصونا منيعة وقِلاعا حصينة، وتندثِر، وتغرَق. ولما بعد الطوفان، ولخواء ما بعد الطوفان، وخيبة ما بعد الطوفان نكتب) 10.
وإذا كان بيت المقدس وأكناف بيت المقدس بؤرة الصراع بين اليهود والمسلمين، فإن أرض المعركة هي الأرض، كل الأرض. و(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر) 11.
والتحدي أمامي وأمامك أيها القارئ الكريم هو أن نكون من إخوان رسول الله ﷺ الذين ودَّ لو رآهم.
[2] (دين الانقياد): يعود هذا المصطلح إلى ابن خلدون، ويعبر به عن حال الأمم حين تستسلم وتنقاد لحكامها، يقول: (ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية… كأن طاعتها كتاب من الله لا يُبَدل ولا يُعْلم خلافه). ابن خلدون (المقدمة)، ص 194.
[3] الترمذي: سنن الترمذي، وقال حسن غريب من هذا الوجه. ورواه كذلك الإمام أحمد، والطبراني في (المعجم الأوسط) باختلاف يسير، والطيالسي.
[4] ياسين، عبد السلام: العدل (الإسلاميون والحكم)، ص23.
[5] روى الإمام أحمد في “المسند” قال: قَالَ رسول الله ﷺ: (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ).
[6] رواه مسلم في صحيحه.
[7] أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد الرحمن بن سمرة.
[8] رواه البخاري في صحيحه.
[9] ياسين، عبد السلام: محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص34.
[10] ياسين، عبد السلام،: العدل أو الإسلاميون والحكم، ص617.
[11] رواه جماعة منهم الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه.