لم يكن رمضان يوما شهرا للركوع والسجود فحسب، بل كان زمن الفتوحات الكبرى، حيث تلتقي روحانية القرآن مع معارك الحق والبطولة. منذ فجر الإسلام، كان هذا الشهر شاهدًا على انتصار العقيدة، يوم التقى القليل الصابر بالكثير المتجبر في بدر، وحين فتحت مكة بغير سيفٍ مسلول، بل بحكمة ورحمةٍ وسجود.
وفي العام الثامن للهجرة، حين اشتد الأذى وأُغلقت أبواب الحرم أمام الموحدين، خرج النبي ﷺ بجيشٍ لم يأتِ لينتقم، بل جاء ليحرر قلوبًا قبل أن يحرر أرضًا. دخل مكة مكبرًا، ومن وقف يوما بالسلاح في وجه دعوته، كان أمامه العفو إن أراد، والسيف إن بغى. لكنه، عليه الصلاة والسلام، رفع راية الرحمة قبل السيف، وقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فكان ذلك الفتح بداية عهدٍ جديدٍ من العدل والتمكين.
لكن مضى الزمن، وما أشبه الليلة بالبارحة! ففي الأرض المباركة اليوم، يدور فصلٌ جديدٌ من الفتح. في أزقة غزة، بين أنقاض البيوت ومساجد تصدح بالأذان رغم الدمار، تتكرر قصة مكة، ولكن على يد جيلٍ جديدٍ من الفتية الذين نشأوا في حلق القرآن، لا في قصور الترف. هؤلاء لا يملكون الجيوش الجرارة، لكنهم يملكون ما ملك النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة؛ الإيمان والعزيمة، والصبر على الطريق.
نقض العهود.. طبع لا يتغير
لطالما ادّعى بنو صهيون رغبتهم في السلام، ولكن كما نقضت قريش عهد الحديبية، نقض الاحتلال اليوم كل هدنة وكل اتفاق وكل وعدٍ بوقف إطلاق النار. لم يكن صلح الحديبية استسلامًا، بل كان ذكاءً استراتيجيا مهد للفتح الأكبر. واليوم، حين ظن العدو أن الحصار والتجويع سيكسر غزة، كانت تلك السنوات مجرد إرهاص لطوفان قادم، زلزال هز كيان المحتل وكشف ضعفه أمام أمة أثبتت أنها لم تمت بعد.
في السابع من أكتوبر، حين أقبل فتية تشبه أرواحهم أرواح شباب بدر، كانوا لا يملكون طائرات ولا دبابات، لكنهم امتلكوا يقينا أن الأرض لا تحرر بالكلام، بل بالصبر والتضحية. دخلوا في جحور الاحتلال كما دخل أصحاب محمد مكة، فاهتزت أركان من ظن نفسه فوق الجميع، وانكشف ضعف من زعم أن الهيمنة قدر لا يكسر.
المرأة.. صانعة الفتح
وكما كانت أم عمارة تتلقى السيوف دفاعا عن النبي ﷺ، وكما حملت أسماء بنت أبي بكر الطعام للنبي ﷺ في طريق الهجرة، فإن المرأة الفلسطينية اليوم هي أم المجاهد، وأخت الشهيد، وحارسة الأقصى بدموعها ودمها. ليست المرأة في فلسطين مجرد شاهدة على الأحداث، بل هي جزء من صناعة النصر، كما كانت الصحابيات في كل معركة فاصلة.
فتح مكة لم يكن نهاية الصراع، بل كان بداية فصل جديد. واليوم، طوفان الأقصى ليس مجرد معركة عابرة، بل نقطة تحول في التاريخ. وكما دخل النبي ﷺ مكة مكبرا بعد سنوات من الصبر، سترفع يوما رايات الفتح فوق المسجد الأقصى، وستصدح تكبيرات النصر كما صدحت في بدر ومكة، لأن الله تبارك وتعالى لا يترك الصادقين، ولا يخذل من يقف في وجه الباطل بيقين.