ارتبطت ذكرى عاشوراء في ذاكرة المغاربة بأجواء من الفرح والسرور تبدو مظاهره في تبادل التهاني والزيارات بين الأهل والأحباب والأصدقاء، وتغير أحوال الشوارع والأزقة والأسواق؛ فتظهر الدكاكين في حلل جديدة تعرض مختلف أصناف الفواكه الجافة متراصة بشكل تجلب إليها كل ناظر، في حين اختار باعة آخرون أن يزينوا الطرقات بشتى أنواع الألعاب مختلفة الألوان والأحجام والأشكال تجلب إليها كل صغير فتتملكه الرغبة في امتلاكها كلها، بينما اختار آخرون أن يعطروا الأجواء بمختلف أصناف البخور والعود والمسك. هذه كلها مظاهر تعبر عما يخالج الأنفس من بهجة وما يملأ الصدور من انشراح، وتزداد الفرحة حينما تخرج النساء، خاصة في المناطق الأكثر شعبية، تضربن على الدفوف بأياديهن المزينة بالحناء وتغنين أغنية ورثنها أما عن جدة، تقول كلماتها (عاشوري عاشوري.. عليك طلقت شعوري…)، تحكي حكاية رجل شهم قتل من طرف أعدائه، فأبدت النساء شعورهن كناية عن الحزن الشديد الذي لا يملك المرء معه أن يمتلك زمام أمره، فيخرج عن المعتاد اللائق المتعارف عنه في محيطه فيفعل ما تألفه النفوس السليمة، كشف شعور النساء ونتفها أمر تنكره الشريعة في البلدان الإسلامية، وتأنفها العادات والتقاليد العربية.
تحكين حكاية حزينة بإيقاعات الفرح والسرور، لماذا هذه الكلمات في جوهرها تعبر عن الحزن الدفين وفي مظهرها سعادة وبهجة؟ بل هل كن يدرين بحالهن وأقوالهن أم هي مجرد تراث موروث متواتر عن الأجداد لا يأبهن له ولا لحقيقة معناه؟ إنه مجرد تقليد.
وارتبطت ذكرى عاشوراء في جانب آخر من العالم الإسلامي بشتى أشكال الحزن من بكاء ونياحة وتبادل للتعازي وشق للجيوب ولطم للخدود وجلد للظهور وإسالة للدماء.. وغيرها من الطقوس والمظاهر التي اعتدنا نحن أن نراها في مواسم غير ذكرى عاشوراء، بل في موسم المولى إدريس الأول والمولى إدريس الثاني في فاس ومكناس حيث تمر الطوائف الواحدة بعد الأخرى (عيساوة) و(حمادشة) و(قربة) وغيرها كثير، مظهرة خوارقها من شرب للماء الساخن وإدخال للنيران في الأفواه وضرب للرؤوس والسواعد بالسكاكين والخناجر وأكل اللحوم الطازجة. وإن كان هذا قياس مع وجود الفوارق.
عاشوراء مظهر من مظاهر افتراق المسلمين واختلافهم، يوم واحد فيه فرح هنا وحزن هناك، ما هي أسباب الفرح هنا والحزن هناك؟ كيف يمكن أن نوفق بينهم؟ وما هو محل النزاع لنحقق فيه؟
نكون خاطئين إن نحن عالجنا المظاهر وتركنا الجواهر، ونكون خاطئين إن نحن تجاوزنا التاريخ في فهم المسألة وحل المسألة، وأكون خاطئة إن ظننت أني بهذه الكلمات سأفعل شيئا من هذا إنما هو إثارة من علم، وإنما العلم الإثارة كما يقال.
وإثارة المسألة تبدأ بالنظر إلى حقيقة هذا اليوم في كتب الحديث والسيرة والتي تثبت كلها أن هذا يوم عرف في شرع من قبلنا من أهل الكتاب بالصيام، فاتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بعدما عرف سبب صيامه وهو نجاة سيدنا موسى وغرق فرعون، فقال نحن أحق بهم من موسى، صامه وأمر بصيامه، لكن بعد فرض صيام رمضان أصبح صيام عاشوراء مندوبا لأنه يكفر ذنوب سنة مرت. وبقي صوم يوم عاشوراء مندوبا كسائر الأيام التي يندب فيها الصيام في عهد الخلفاء الراشدين.
لكن اقتضى قدر الله أن يوافق هذا اليوم يوم مقتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يوم الجمعة العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة، يوم استشهد فيه الحسين بن علي في كربلاء، (استشهاد الحسين جرح في جنب الأمة)، فقرة سوداء في تاريخ من ضرب وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط حين استوصى بأهل بيته خيرا، فاتخذ الشيعة هذا اليوم يوم مأتم متجدد في وجدانهم وأعيادهم وخطبهم يعيشونه (بألم كما عاش آباؤهم تلك المأساة المحزنة. بل تلك الجريمة النكراء بكل المعايير)، فجعلوا دمه لعنة على الحكم الظالم الطاغي الذي تعدى كل الحدود الشرعية لإثبات شرعيته. وقطع رأس كل معارض ولو كان الحسين سيد شباب أهل الجنة بشهادة جده رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما مقام من قتل أو رضي بقتل من مقامه في الجنة موعود؟
هكذا جعل شيعة الحسين هذا اليوم يوم مأتم، وجعله من يبرر صنع البيت الأموي يوم فرح وهدايا وتوسعة وترفيه بالحلوى وما لذ وطاب. فراح هؤلاء يضعون أحاديث عن رسول الله تدعو إلى الحزن والأسى، وراح الآخرون يضعون أحاديث تشجع على المبالغة في الفرح والسرور. إنه أبشع استغلال سياسي لهذا اليوم من طرف الفئتين.
ومن ثم يظهر أن كلا الطائفتين مخطئة وخارجة عن السنة والقول الفصل هو الرجوع بهذا اليوم إلى أصله كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين، والأصل فيه صيامه تقربا إلى الله عز وجل.