عالمات منسيات -1-

Cover Image for عالمات منسيات  -1-
نشر بتاريخ

إن محاولات تغييب إسهامات المرأة المسلمة في مجالات متعددة حقيقة تاريخية عانت منها المرأة وما تزال، ولعل هذه الإشكالية تحتاج إلى تمحيص وبحث في الحقائق العلمية، وإلى استقراء جديد في التاريخ.

لقد شهدت الكثير من المخطوطات والكتب على حضور المرأة القوي، فخلدت أسماء عالمات، وخطاطات، وناسخات، وشاعرات، ومحدثات، وفقيهات، ومعلمات، وصوفيات.. وغير ذلك.

وأول ما يتبادر إلى الذهن سؤال القارئ أين هي إنتاجاتهن الدالة على ذلك؟ ولمَ لمْ تشتهر وتعرف إلا أسماء قليلة؟

إن غياب المرأة عن ميدان الكتابة والتأليف قد لا يكون حقيقيا بل هو تغييب وتحجيم وحجر مقصود عليها، ولعل الخوض فيه يحتاج إلى صفحات وكتب، وكما أن وصول نصوص متفرقة غاية في الروعة والإتقان  لدليل على وجود عطاء إبداعي تم حجبه وإقصاؤه، وكدليل عل ذلك قولة بشار بن برد: “لم تقل امرأة شعرا إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال”. تكشف عن بعض أسباب عدم تدوين النصوص النسائية، فهو لم يصنف من شواعر العرب غير الخنساء، وهذا تحامل وتعصب ومبالغة في إطلاق الأحكام، رغم مكانة بشار العلمية والنقدية (1).

ورغم هذا الحيف، تصادفنا مصنفات عربية قديمة يعترف أصحابها بأن ما جمعوه من بلاغات النساء شعرا ونثرا يضاهي ما بلغه الرجال المحسنون، من ذلك كتاب “بلاغات النساء” لصاحبه أبو الفضا أحمد بن طاهر طيفور، وكتاب “أشعار النساء” للمرزباني الذي حوى أخبار وأشعار أكثر من ثمان وثلاثين شاعرة. وهناك من خصص لها حيزا بجانب الرجل ككتاب “الأغاني”  للأصبهاني، وما كتبه الإبشهي في كتابه “المستطرف في كل فن مستظرف”، وغيرهم كثير. هذا دون أن نغض الطرف عما ذكره العديد من العلماء والفقهاء عن دور المرأة في تكوينهم وتلقينهم العلوم، فهذا ابن عساكر الملقب بـ”حافظ الأمة” من أصدق رواة الحديث كان له من الشيوخ بضع وثمانون من النساء.

وعلى قلة ما وصلنا من مؤلفات النساء إلا أننا يجب أن  نقف على أسماء ذكرهن التاريخ وسجل عطاءهن “كفاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي” التي ألفت كتبا في الفقه والحديث،  و”جليلة بنت علي بن الحسن الشجري”  و”زينب بنت يحيى بن العز بن عبد السلام” التي تفردت برواية المعجم الصغير للطبراني بالسماع المتصل، و”عائشة الباعونية” التي لقبت بـ”الشيخة الدمشقية” الأديبة العاملة اشتهرت بمديحها النبوي، أما إذا توجهنا إلى العصر الأندلسي الزاهر فنجده حافلا بالأسماء اللامعة التي أغنت العطاء النسائي في شتى العلوم.

لقد شهد التاريخ الإسلامي نساء عديدات ارتقين في مدارج الكمال والمعرفة، لكن هل قدر للمرأة ونتاجها أن يبقى رهين قيود وتغييب وأحيانا كثيرة النسيان، أم آن أوان إجلاء الصدأ حتى نصحح المفاهيم الخاطئة، ونخرج للنور تلك الدرر النفيسة، ونخبر الأجيال الصاعدة أن كتب التاريخ الإسلامي حافلة بأسماء نساء نهضن بالعلم والدرس وساهمن في بناء صرح هذه الأمة؟

مما لاشك فيه أن المرأة قطعت مراحل قاسية ومؤلمة في تاريخها، عرفت فيها  سطوة الفكر الذكوري  وجبروته وإخضاعها لسلطته المطلقة والجائرة، إلا أن لكل حقبة نساؤها اللواتي استطعن كسر ربقة الظلم والاستبداد والسمو بحثا عن الكمال، وكانت السيدة  أم المؤمنين “خديجة” رضي الله عنها رمزا وملاذا لهن، وهي التي ضربت المثل الأسمى للمرأة البانية لأسس وصرح الإسلام منذ الوهلة الأولى لظهوره، فلم تكن  حبيسة منزل أو فكر منغلق، بل كان المجال مفتوحا أمامها تظلله الشريعة الغراء ويرعاه العفاف والطهر والشرف، لتتوالى النماذج الشامخة شموخ السماء ويمتد العطاء الأنثوي بعد نزول الوحي والهجرة والتأسيس المجتمعي الجديد، ليكون لكل واحدة منهن لبنة تضعها لتعلي صرحه وتمضي به قدما في مجالات متعددة؛ فتبرز الفقيهة المتأسية بأمنا “عائشة” رضي الله عنها والمتحدثة والمتصدرة لمجالس العلم والتكوين، فأصبحن راسخات القدم في العلم وفي الإسهام الإبداعي، ولعلني اخترت اسما من بين الأسماء العديدة نموذجا يعكس صورة عاشتها العديد منهن وهي “زينب بنت يحيى بن العز بن عبد السلام السلمية” (648 – 735 هجرية).

هي سليلة بيت العلماء؛ فجدها هو “العز بن عبد السلام” سلطان العلماء، رضعت العلوم منذ طفولتها فارتادت في سن الخامسة مجلس عثمان بن علي المعروف بابن خطيب القرافة وأيضا مجلس عمر بن نصر بن عوة الجزري وأجاز لها (سنة 650 هـ) من الديار المصرية “سبط السلمي” وغيره وحدثت (2).

تصدرت العالمة “زينب” أبرز المجالات شرفا ألا وهو رواية الحديث النبوي الشريف الذي ظل مقياسا للشرف والصدق ولحفظ العالم ودرجة مكانته بين العلوم، وقد أطلق المجتمع على هؤلاء النسوة ألقاب أو أسماء تعبر عن محبتهم واعتزازهم بوجودهن ودورهن عرفن بها منها: قرة العين، فخر النساء، ضوء الصباح، ست الدار، ست الشام، ست الفقهاء، معلمة الرجال…

إن التراث الإسلامي زاخر بالعديد من النساء الشامخات وبأعمالهن، نحتاج فقط لمن يميط اللثام عنهن  ويعمل على إخراجهن للنور، وتعريف الجيل الصاعد بهن عبر إدراج سيرهن وأعمالهن ضمن المقررات التعليمية، لنوفيهن بعضا من حقهن ولنقدم نموذجا صالحا للاقتداء والسير على خطاه.


(1) تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي ببيروت، ج 3، ص 273.

(2) معجم الشيوخ للسبكي، ص: 579.