عام على الطوفان

Cover Image for عام على الطوفان
نشر بتاريخ

إن القضية الفلسطينية كانت ولازالت وستبقى هي النموذج العملي لحقيقة ما يدعيه الغرب من قيم ومبادئ، وقوانين ومؤسسات هدفها ضمان حقوق الإنسان وصيانة كرامته، إنها دليل قاطع وبرهان ساطع على أن الإنسانية بالنسبة للغرب درجات ومراتب، وإنسانية الإنسان الفلسطيني تأتي في آخر السلم، إن معركة طوفان الأقصى شاهدة على زيف شعارات الأنظمة العربية في الدفاع عن مقدسات الأمة ومصالحها، إنها كانت سببا في وحدة  شعوب الأمة وتماسكها وتضامنها وتعاونها، رغم الاختلاف الأيديولوجي والطائفي، وهي مثال عملي على إمكانية التنسيق والتعاون والتضامن بين المسلمين سنة وشيعة، لأن العدو واحد، والهدف واحد، أما التشرذم والتشتت والفرقة والصراع الطائفي، فهو من صنع العدو وأعوانه.

إن معركة طوفان الأقصى عبرت بوضوح على ما تحمله الشعوب العربية والإسلامية في قلوبها من تعطش للحرية والكرامة، تعطش للدفاع عن القدس الشريف مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعائق الوحيد أمامها هو هذه الأنظمة الفاسدة المستبدة، التي تنفق ميزانيات ضخمة على شراء الأسلحة وتجهيز الجيوش، من أجل قمع الشعوب والدفاع عن عروشها، وليس من أجل تحرير الأقصى والوقوف في وجه أعداء الأمة.

إن معركة طوفان الأقصى المبارك أكسبت القضية الفلسطينية تعاطفا عالميا، وكشفت بجلاء أن هناك شرخا كبيرا بين مواقف الحكومات الغربية وبين مواقف الشعوب، وخاصة فئة الشباب منهم، الذين خرجوا بالملايين في معظم الجامعات الغربية ضد الصهاينة ودفاعا عن غزة، دفاعا عن قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، دفاعا عن الحق في الحياة، الحق في الماء والهواء وكسرة خبز، دفاعا عن الأمن والسلم، عن القانون الدولي والمؤسسات الدولية، أو بتعبير آخر دفاعا عن ما تعلمه هؤلاء الشباب داخل مدارسهم وجامعاتهم من قيم ومبادئ، إلا أنهم اكتشفوا أن هناك فرقا كبيرا بين ما ترفعه هذه الأنظمة الغربية من شعارات وما تمارسه من سياسات، وهذا سيؤدي لا محالة بالنسبة لهؤلاء الشباب إلى إعادة النظر في ما يؤمنون به من قيم ومبادئ، وما يعرفونه من أفكار ومعارف عن القضية الفلسطينية، وهذا يعد مكسباً كبيراً للقضية وفشلا ذريعا للعدو الصهيوني رغم الأموال الكبيرة التي تنفق من أجل تجميل صورة الاحتلال.

إن ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم من قتل وتشريد، وتجويع واعتقال وتعذيب، وحصار وتضييق، لمدة سنة كاملة على مرأى ومسمع من المؤسسات الدولية، حيث مجلس الأمن، والأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، يؤكد أن النظام العالمي محكوم بقوانين المصلحة والمنفعة والربح، وبعيد كل البعد عن قيم الحق والعدل والمساواة. نظام عالمي موجه من طرف الشركات الكبرى التي هدفها تشجيع الاستهلاك وتحقيق مزيد من الربح، وخاصة شركات إنتاج السلاح، التي تشجع دائما الحرب والعنف، وتحارب السلم والأمن والاستقرار، من أجل استهلاك أكثر للسلاح وبالتالي ربح أكثر.

إذا كان اليقين ثقة راسخة في النصر والتمكين، ودافع داخلي يحفزك على الاجتهاد في أخذ الأسباب وإتقانها، فإن المقاومة الفلسطينية أصبحت رمزا لكل هذه المعاني وزيادة، أصبحت بالنسبة لكل أحرار العالم يقينا في النصر يمشي على قدمين، إنها شجاعة ومبادرة وإقدام مجسدة في أجساد رجال، إنها صبر وصمود وثبات وعزة وكرامة اسمها غزة، إنها عام من المقاومة والمجابهة في وجه أطنان من القنابل والمتفجرات. مهما قلنا عما فعلته المقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال الغاصب فلن نوفيها حقها، إنها المقاومة الفلسطينية وكفى.

إذا كان الدفاع عن الأوطان من الإيمان، والتمسك بالأرض من شيم الرجال، فإن سكان غزة العزة أصبحوا رمزا للتشبث بالأرض والوطن، رغم كل محاولات التهجير والترحيل، رغم القتل والتجويع، رغم الاعتقال والتعذيب، رغم الخراب والدمار، رغم غياب أبسط شروط الحياة، تبقى أرض غزة العزة بالنسبة للشعب الفلسطيني أفضل من كل الأوطان، في زمن تهاجر فيه أفواج من الشباب في بلدان أخرى الوطن، بحثا عن الحرية والكرامة رغم غياب الحرب وتوفر ظروف “الأمن والاستقرار”.

إذا كانت المرأة مفتاح التربية وسر التغيير، وبدون نساء مؤمنات صالحات لا يمكن أن نتحدث عن تربية إيمانية، لا يمكن أن نتحدث عن تربية أجيال من المجاهدين، فإن المرأة الفلسطينية أصبحت رمزا للصبر والثبات، رمزا للتربية المتوازنة حيث اليقين في الله وحسن التوكل عليه، حيث حفظ القرآن والقيام، حيث الصلاة في وقتها مهما كانت الظروف والأحوال، فكم من طفل صغير التقطته عدسات الكاميرات يصلي رغم الحرب والدمار، إنها التربية الإيمانية، إنها الأم الفلسطينية مربية الرجال من المجاهدين والشهداء والعلماء والمفكرين، يكفيها فخرا أن معركة طوفان الأقصى كانت من صناعة أبنائها تخطيطا وتنفيذا، وثباتا وصمودا، يكفيها فخرا أنها فلسطينية.

بعد عام من الطوفان يمكن لأي متتبع أن يحصي عدد القتلى والجرحى في صفوف الشعب الفلسطيني الأعزل، أن يصف حجم الدمار والخراب في المباني والممتلكات، أن يتأسف لحجم الحصار والتجويع الذي يعاني منه شعب غزة العزة، وهذا كله بسبب همجية الكيان الصهيوني الذي يستهدف المدنيين العزل في بيوتهم أو في المدارس، بسبب الاحتلال الذي يبيد شعبا لأنه يطالب بأرضه، يطالب بالحق في وطن يعيش داخله آمنا مطمئنا.

 لكن يمكن أيضا لأي متتبع أن يلاحظ أن معركة طوفان الأقصى كشفت الوجه الحقيقي للحضارة الغربية، التي كانت ترفع شعار حقوق الإنسان، كشفت الوجه الحقيقي للمؤسسات الدولية التي كانت ترفع شعار ضمان الأمن والاستقرار، كشفت الوجه الحقيقي للأنظمة العربية التي كانت ترفع شعار القضية الفلسطينية قضية عربية، كشفت الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني الذي كان يدعي بأنه دولة ديمقراطية تحترم القانون الدولي، كشفت الوجه الحقيقي لجيش الاحتلال الذي كان يدعي بأنه الجيش الذي لا يقهر.

إنه عام من الطوفان جعل القيم الغربية تتهاوى وتفقد مصداقيتها، بل وأصبحت المجتمعات الغربية وخاصة فئة الشباب تتساءل عن مدى واقعية ومصداقية هذه القيم والمبادئ، بل وجعل المؤسسات الدولية تبدو عاجزة عن تطبيق القانون الدولي، الشيء الذي جعل كثيرا من الدول تعيد النظر في وظيفة هذه المؤسسات ودورها.

 إنه عام من الطوفان جرف معه أحلام الأنظمة العربية وخاصة المطبعة منها، والتي كانت تراهن على قوة الكيان الصهيوني الاقتصادية والعسكرية لحماية عروشها، إنه عام من الطوفان جعل الشعب المحتل يغادر المناطق الجنوبية حيث صواريخ غزة، ويغادر المناطق الشمالية حيث صواريخ حزب الله، ويعيش في المناطق الوسطى مختبئا في الملاجئ، يترقب سماع صوت صفارات الإنذار بين الفينة والأخرى، فهو يعيش الرعب المتواصل والفزع الشديد، بل وجعل كثيرا من اليهود يهاجرون إلى بلدان أخرى بحثا عن الأمن والاستقرار، وهروبا من صواريخ المقاومة، هروبا من سماع صوت صفارات الإنذار.

إن معركة طوفان الأقصى المباركة جعلت جيش الكيان الصهيوني يشك في قدراته، ويفقد هيبته، بل وجعلت الكيان كله يتزعزع ويفقد خاصية الأمن والاستقرار التي كان يتباهى بها لسنوات، لأن الحرب أصبحت تدور داخل الكيان الغاصب، من خلال العمليات الجهادية، ومن خلال صواريخ ومسيرات المقاومة، التي تطول حيفا وأسدود وكل المدن والبلدات، إن حكومة الاحتلال اليوم  تشعر بالضعف رغم مساندة أمريكا وبريطانيا وصمت كل دول العالم، والمستوطنون يشعرون بالخوف الشديد، والرعب المتواصل، رغم حمايتهم بأحدث أنظمة الدفاع الجوي مثل “القبة الحديدية” و”تاد” و”مقلاع داود” وغيرها من الأسلحة.

إن معركة طوفان الأقصى المباركة جعلت القضية الفلسطينية تنبعث من جديد لتصبح قضية الإنسانية جمعاء وليست قضية شعب أعزل يفعل به المحتل ما يشاء، جعلت ضمير الإنسانية يتألم ويستشعر حجم التناقض الذي يقع فيه، ويرى نفسه في مرآة معاناة أهل غزة العزة. إن دماء شهداء أهل غزة الزكية أحيت الرغبة في التحرر والانعتاق من ربقة الاحتلال والغزو الحضاري في قلوب وعقول  الكثير من شعوب العالم. إن تدمير مباني غزة وتهديم شوارعها، هو بمثابة بناء لإرادة شباب هذه الأمة من أجل بناء دولة قوية تصنع سلاحها، وغذاءها، ودواءها، بسواعد أبنائها وليس بالاعتماد على الخارج.

إن معركة طوفان الأقصى وسيلة وأداة لهذه الأمة الإسلامية، حتى تتعلم اليقين التام في الله والثقة الكاملة في نصره وتمكينه، حتى تتعلم حسن التوكل على الله مع سنة الأخذ بالأسباب وإتقانها، حيث تنظيم الجهود، ورص الصفوف، وتوحيد الأهداف، حيث التعاون والتكافل والتكامل، حيث تجاوز الفرقة والتشتت، فعدو الأمة واحد هو الكيان الغاصب الذي يدنس باحات الأقصى المبارك، هو الظلم والاستبداد الذي يستنزف خيرات الأمة وثرواتها، هو التخلف والتقهقر والتقليد الذي جعل الأمة تتسول غذاءها ودواءها وسلاحها من الغرب المنافق.