لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ
وَلَزُرتُ قَبرَكَ وَالحَبيبُ يُزارُ
رحم الله جريرا، أستلف هاهنا البيت منه، فقد وقع الحافر على الحافر، وأسعف وهج العبارة رغم أنها من الماضي مهجة الحاضر..
لم يجمعنا تنظيم ولا أيديولوجيا.. إنه جمال المحبة في الله، رابطة أقوى من المعاصرة، القرب حجاب، القرب حجاب..
فقيه السيرة النبوية الشريفة والتاريخ الإنساني المفتوح..
لماذا اخترت هذا العنوان؟
وجدت للرجل عينا فاحصة، وبصيرة منورة نافذة، لا يمر على الأقوال والأفعال والأحوال مرور الغافلين، بل يعتصر تفاصيلها ويستقطر منها الفوائد العميقة والحكم البليغة..
إن مشروعه الإحيائي الاستخلافي القرآني كبير وكبير جدا، تتعدد مداخله وزواياه ومقارباته، لدرجة أن المرء يصاب بالدهشة حينما تبدأ معالمه بالتجلي والظهور والتكشف، وليس ذلك إلا للمكابدين رحلة البحث..
إنه رجل يُكتشف، لا رجل يُصادَف، وطبعا رحمة الله واسعة..
قام الأستاذ عبد السلام ياسين ناصحا مناهضا للظلم والانحراف، حذر المسلمين من مغبة سجن دينهم في الزوايا المظلمة، بل حفزهم وحمسهم كي يخرجوا إلى النور ليصنعوا التاريخ..
كان الثمن باهظ جدا، بل قد دفع الرجل فاتورة ثقيلة، في صبر واحتساب.. كانت دعوة للحق والهداية والعدل..
دعانا إلى الاعتصام بحبل جماعة الإسلام وإلى رابطة الدين، إخوة متعاونين، فالخير كل الخير في توحيد الصف وجمع الكلمة والتآزر، فالخطب جلل، والتحديات كبيرة وخطيرة. ولنا في التاريخ والسيرة شواهد تعزز طروحاته وتنظيراته.
بلال ووحشي.. أخوة الاستعباد والقيود
ارتبط سيدنا بلال بجماعة الإسلام والمسلمين منذ أول دفقات النور في مكة المكرمة، ربط بها مصيره دون قيد أو شرط أو نظر إلى مكاسب أو أرباح عاجلة..
كان لوحشي، هم فردي واحد، أن ينال حريته، كسر قيد العبد، وذلك حقه، ومن ذاق عرف!
مسلكان: الفرد أو الجماعة
قال عبد الله بن مسعود: «أول من أظهر إسلامه سبعة، رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمار وأمه سمية وبلال وصهيب والمقداد. فأما رسول الله ﷺ، فمنعه عمه. وأما أبو بكر فمنعه قومه. وأُخذ الآخرون، فألبسوهم أدراع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ، فأعطوهم ما سألوا، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله حتى ملّوه..
أي تضحية وأي إباء وأي انتماء، إنه رباط مقدس، انتظام في عقد جماعة الإسلام، حقق الاستعداد فجاءه الإمداد. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قوله: «السُّبَّاق أربعة: أنا سابق العرب، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم».
سبق سيدنا بلال!
كان من أمر وحشي ما كان، اختار مسلك الخلاص الفردي، وبقي في مكة بعد عتقه حتى فتحها المسلمون، ففر إلى الطائف إلى أن خرج وفد منها للقاء رسول الله..
يقول: “فلما خرج وفد الطائف ليسلموا ضاقت علي الأرض بما رحبت وقلت ألحق بالشام أو اليمن أو بعض البلاد فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال رجل: ويحك! إنه والله ما يقتل أحداً من الناس دخل في دينه… فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله المدينة، فلم يرعه إلا وأنا قائم على رأسه، أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: وحشي؟ قلت: نعم. قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة. فحدثته، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك! غيب وجهك عني، فلا أراك.. فكنت أتنكب رسول الله حيث كان، فلم يرني حتى قبضه الله…”
استدرك وحشي، فلما خرج المسلمون في حرب المرتدين انطلق معهم مستغلا الفرصة تكفيرا لقتله سيدنا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه..
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10]
آيات جامعات فاضلات، وليس أحدٌ من أهل الإيمان والإسلام إلاّ وله فيهن حق معلوم..