قطَّعتْ مشاهدكم أكباد الملايين التي شعرت بقلوبكم ترتجي غوثا وقت الشدة القصوى، وتصرخ مستعطفةً بلا جدوى، فلا مغيث ولا منقذ ولا نصير. ذرفت عيون المستضعفين دموعا غزيرة، إذ لا حول لهم ولا قوة، ولا يملكون لكم من الأمر شيئا وهم يشاهدون أزمتكم عبر الوسائل السمعية البصرية، وعيونُكم تتطلع إلى مخرج من الغم الأليم وفرج من الهم العظيم، وتنظر إلى السماء علها ترى طائرة مروحية ترسل حبال النجدة لمن تقطعت بهم السبل وانهارت القوى أمام جبروت السيول، لكن هيهات هيهات يا سادتي، فلستم من أبناء أوروبا ولا أمريكا ولا من بلاد العم سام، إنما أنتم من بلاد الإسلام، ما أمَرَّ هذا الكلام، نخوة الحكام ماتت والسلام!
لا يعلم أحد إلا الله ماذا كان يجول بخواطركم، ولا ما كان يدور من كلام بينكم وأنتم في ذاك الموقف المرعب، وعلى شفا الهلاك، ولا مدى حسراتكم وأنتم تغادرون هذه الدنيا الفانية، ذهبت معكم أسراركم واختفت مع صعود أرواحكم إلى الرفيق الأعلى عالم السر والنجوى، غير أننا لا نستبعد إحساسكم بالغبن إذ لم تُعامَلوا في هذه البلاد، وأنتم أهلها وأحق ببِرِّها وبركتها، كما تم التعامل مع الأجانب في غير ما مرة وفي غير ما موقف، حيث يتم استنفار القوى والإمكانات التقنية واللوجستيكية والبشرية المتاحة، لنجدتهم وبالسرعة القصوى، جنودا وأطباء وخبراء وآليات وطائرات مسخرة ومجهزة خوفا على روح سائح محاصر بالسيول أو متسلق معلق بالجبال.
مهلا سادتي الغرقى، وعلى رسلكم، فأنتم مجرد مغاربة فقراء، من يأبه بكم في عالم الجفاء، أنتم أبناء الدواوير المنسية في المغرب العميق المنكوب، لا من الأحياء الراقية في المغرب المحظوظ! مغربكم يا سادتي، هذا الذي يستضيف في هذه الأيام لقاء دوليا يسمى المنتدى العالمي لحقوق الإنسان، لا يعير نظامه اهتماما لحق الإنسان في الكرامة والحرية والعدالة، بقدر يهمه الاستحواذ على الجاه والمال، والاستفراد بخيرات البلاد وامتصاص أرزاق العباد، وإلا فما الفرق بين كلميميٍّ وفاسيٍّ، وبين تنغيريِّ ورباطيٍّ، وبين ورزازيٍّ وبيضاويٍّ، حتى يُحاصَر الناس في الصحاري والجبال والعزلة والفقر والخراب هنا، بينما تبنى القناطر والطرقات والبنية التحتية وتزين الأرصفة والساحات هناك، وما الفرق بين ابن فلان وابن فلان، حتى يحظى هذا “بلذيذ” حياة المترفين بينما يشقى ذاك بِمُرِّ عيش المحرومين.
بعيدا عن معاناتكم وآلامكم من اللامساواة ومن ظلم الفوارق الطبقية التي زادها التدبير المخزني الممنهج استفحالا، فنحن الآن بصدد قضية أدهى وأمر، هي استخفاف الدولة المغربية بمواطنيها في مقابل حزمها عندما يتعلق الأمر برعايا الدول العظمى، هل يستطيع حكامنا أن يعلنوا صراحة أنهم يرتجفون خوفا على استقرار الحكم إذا لم يرض عنهم الأسياد وأولياء النعمة، بينما لا تعبأ مشاعرهم ولا تهتز كراسيهم لنكبات المواطنين ولا لصرخات الثكالى والأرامل والأيتام؟
عذرا على تقصير الأمة المسكينة المأسورة في حقكم حتى لقيتم حتفكم، لو كان الأمر بيد خيارها تقوىً وعلماً وتنظيماً وتسييراً وتدبيراً، الذين يعلمون يقينا أن حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة المشرفة، أقول لو كان الأمر بمثل تلك الأيادي الطاهرة المتوضئة الخاشعة التي ترجو الله والدار الآخرة، ما كان التعامل مع المواطنين هكذا، وما كان التعامل مع الكوارث هكذا، وما كانت البنية التحتية للبلاد هكذا، وما هلكتم هكذا، لكن قدر الله وما شاء فعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فلستم وحدكم من يذوق طعم الموت، بل الموت كأس وكل الناس شاربه لا محالة وإن اختلفت الأسباب، وعند الله تجتمع الخصوم.
إن كنتم سادتي الغرقى أهون على الحكام والمسؤولين من الأجانب بمنطق الخوف والهوان والمصالح والحرص على الدنيا، فأنتم بحمد لله على دين سيد الوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مَنَّ الله تبارك وتعالى الحنان المنان عليكم بكرامة الشهادة، إذ الغريق من صنف الشهداء. نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحمكم وأن يتقبلكم في عداد الشهداء والصالحين، وأن يكشف الغمة عن سائر هذه الأمة، آمين والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وله الحمد على كل حال، لا نحصي ثناء عليه، لا تتحرك ذرة في الكون إلا بعلمه ومشيئته وحكمته، سبحانه، لا إله إلا هو إليه المصير.