“الجار قبل الدار”، مقولة تحمل لطائف عجيبة ومعاني جليلة وعميقة، لا يعرف قيمتها النفيسة إلا أجدادنا وآباؤنا، والقليل من يعرف حق الجار.
اهتم الإسلام بالعلاقات الإنسانية وعنى بها عناية فائقة، وأوصى بالجار وحث على الإحسان إليه. فكان حسن الجوار من النّعم العظيمة، التي أنعم الله عز وجل بها على عباده المسلمين، نظرا لثمارها الوفيرة على الفرد والمجتمع. فحسن الجوار أمر إلهي واجب على كل مسلم ومسلمة، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [سورة النساء/36].
فحسن الجوار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة من علامات الإحسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصْمُت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِم جارَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضَيْفَه” [متفق عليه].
جمعت بين الجيران في الماضي القريب علاقة طيبة ومتينة، بنيت على الصدق والمحبة والتعاون وحب الخير للجار. فكان المرء حقا يختار الجار قبل الدار، فكان لا يطيب له العيش إلا مع جاره، ولا يضع اللقمة في فيه حتى يسأل عن حاله، هل جاع أم شبع، يتهمم لهمّ جاره، ويحزن لحزنه ويفرح لفرحه، ويتمنى له الخير قولا وفعلا، يشاوره وينصحه، يرافقه للمسجد، يشاركه تفاصيل حياته، لا تقام الأفراح إلا بحضوره ومشاركته، إذا مرض يهرع للسؤال عن حاله، وإذا مات يقوم بالواجب وزيادة.
كان الجار يكرم جاره حيا وميتا، وكان المرء يسند ظهره على جاره فيعينه على نوائب الدهر، بل كان الجار موضع أسرار جاره. فقد كان يتقاسم معه حلو الحياة ومرّها، حتى أنه إذا احتاج لشيء فإنه يجده عند جاره فلا يتكبد مشقة الحاجة أو العوز. نعم الجار كان، يسابق جيرانه لفعل الخير والإحسان إلى الغير؛ بمعنى أعمق كان الجار القريب بمثابة الأخ البعيد.
فعلا كانت الحياة سعيدة، سهلة وبسيطة، تسودها روح الجماعة والأخوة والتعاون والتضامن. كان الجار مقدسا ومحترما يُحسب له ألف حساب. وكان جو المحبّة والائتلاف يضفي على الحياة العادية والرتيبة نوعا من التميُّزِ واليُسر والبركة، وكان يُلبس الأعياد حُلّة خاصة، فلا تزهو أجواؤه ولا تحلو لحظاته ولا تشِع بهجته إلا مع ووسط الجيران.
كان الأجداد والآباء يعلمون أن الجار أربعون جارا، وكانوا يرددون: “الجار جار ولو جار”، قدوتهم في ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجار اليهودي الذي أسلم متأثرا برحمة وإحسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما الذي تغير؟ وماذا حل بحالنا؟
في السنوات الأخيرة تغيرت الحياة كثيرا وتعقدت، لقد كادت أن تصبح المعاملات والسلوكات الحميدة التي ذكرناها من قبل أوهاما وأحلاما.
لا تعجب بل تَأَسف على حال، أصبح فيه الجار عدو جاره، بسبب أو بدون سبب، لداع أو بدون داع. بل الأدهى والأمر أصبح الجار وكأن لا جار له، وحيدا غريبا.
قد يجوع وقد يمرض وقد يموت وحيدا متألما، وجيرانه بابهم إلى بابه لا من أحس ولا من سمع ولا من رأى. منهم من اضطره جاره لبيع داره، ومنهم من يسعى جاهدا لمضايقته وإزعاجه، وهناك من يتفاخر ويتعالى على جاره المسكين… غافلا عن سنة ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “واللهِ لا يؤمِنُ واللهِ لا يؤمِنُ واللهِ لا يؤمِنُ قالوا وما ذاكَ يا رسولَ اللهِ قال جارٌ لا يؤمنُ جارُهُ بوائقَهُ قالوا يا رسولَ اللهِ وما بوائقُهُ قال شرُّه” أخرجه البخاري.
ساء الحال كثيرا حتى صار الجار يغير مساره لكي لا يصادف جاره في الطريق، وإذا رآه خارجا من بيته فإنه يؤخر خروجه ويؤجل غرضه حتى لا يلتقي به. وإذا التقيا صدفة فالتجاهل يكون سيد الموقف. كل في حاله وشأنه.
أمور كثيرة وسلوكيات غريبة لا تمت إلى ديننا الإسلامي بصلة، قد تكون عند البعض عادية ومألوفة، ولكنها سامة وخطيرة على النشء الصاعد وعلى أجيال الأمة التي يحاول أعداء الإسلام إضعافها عبر دس سم ثقافة ممنهجة ودخيلة في روابطها المجتمعية، تدعو إلى نبذ روح الجماعة وإلى التفرقة والانطوائية والفردانية الأنانية التي لا تحبذ حسن الجوار ولا حب الخير للغير.
لا تعجب إن سمعت أحدهم يسمي الماضي بالزمن الجميل، فعلا كان جميلا؛ بأجوائه ومظاهره، وحب الناس بعضهم لبعض، وتعاونهم وائتلافهم، فأجمل القصص وأحلى اللحظات وأمتع الذكريات كانت مع ووسط الجيران. هل يتخيل أحدنا كيف كانت ستبدو طفولته بدون جيران؟ جوفاء بدون لب ولا طعم. ومن منا لا يحن إلى طفولته البريئة وذكرياته الخالدة التي قضاها في كنف الجيران وحبهم وتجمعاتهم، وسهراتهم وطرائفهم الشعبية، كنا نأكل وننام ونصبح ونمسي على جيراننا، لم تكن الاضطرابات النفسية بهذا الحد الذي أصبح الآن، ولم تكن النفوس مريضة بمرض الانطواء والانزواء، كانت حدة الاكتئابات قليلة مقارنة مع زماننا الحالي، فعلا كانت الحياة جميلة وسعيدة.
لا ريب أن قوة الأمة وتماسكها وصلابتها تكمن في قوة الجماعة واتحاد أفرادها أسرا وجيرانا. ولن تضعف أمة أساسها متين، وبناؤها صلب. لن تُخذل مادام أركانها الإحسان والعدل والتعاون وحسن الجوار.
ونحن نعيش نفحات رمضان تاج الشهور حيث تتضاعف الأجور، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر، ويا محبا للخير أكثر، ويا محسنا للجار أمطر، ويا ممسكا أنفق وأغدق، فاللهم زد وبارك وأنعم في ذلك.