تربي الأم أبناءها على اكتساب مكارم الأخلاق، وأمهات الفضائل؛ تعلمهم الخير، وتشجعهم عليه، وتعمق لديهم فكرة مفادها أن التربية بدون أخلاق تربية جوفاء، والأخلاق بلا تربية أخلاق بتراء. ولعل أعظم خلق كريم يربي عليه الآباء أبناءهم خلق الحياء، لأنه يمثل الدين كله. فكيف نعلم أبناءنا الحياء، ونحيي فيهم معاني هذا الخلق النبوي، والأمة تعيش فراغا خلقيا رهيبا؟
إن “خلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها، وأعظمها وأكثرها نفعا” (1)، وهو سمة الأنبياء والأولياء والصالحين، قال تعالى في سورة القلم: وإنك لعلى خلق عظيم (2)، وهو صفة مشتركة بين الإنسانية جمعاء.
هو شعبة من شعب الإيمان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحياء خلق الإسلام، وقرين الإيمان، وصعود في مدارج الإحسان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن لكل دین خلقا، وخلق الإسلام الحياء” (3)، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفر منه، وقد حث الشرع عليه، ورغب فيه لاسيما وأنه باعث على الخير.
يستقي الأبوان من النبع الصافي، كتاب الله وسنة رسوله، لتستقيم لهما الرؤية؛ فيعلمان أبناءهما مراتب الحياء ودرجاته؛ حياء من الله بذكره، ومحبته، والإحساس بمراقبته، والخشية من المصير الأخروي. وحياء من الناس؛ بالابتعاد عن كل قبيح، بالملاطفة، والملاينة، والصبر، والتوقير، والتعظيم. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في معرض حديثه عن درجات الحياء: “للحياء بشتى درجاته المكانة الطيبة في ضبط أقوال المؤمن والمحسن وضبط أفعالهما. وإضفاء السكينة والوقار علی شخصيتهما” (4).
وتمتح الأم من معين السيرة فتستحضر نموذج الصحابيات اللواتي جسدن الحياء في أسمی تجلياته؛ تعلم بناتها كيف استحيت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من أن تسير أمام الرجال، وكيف استحيت سيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها من كون الثوب الذي يغطي جسد المرأة بعد موتها شغاف ويلتصق.
يبذل الأبوان كل ما في وسعهما، ويوجهان أبناءهما التوجيه الرقيق، ويوضحان لهم أن الحياء لا يمنع الإنسان من تعلم دينه؛ وها هي أم سليم رضي الله عنها، لم يمنعها حياؤها من الوقوف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستفسرة عن أمر دينها.
نموذج آخر هو تجسيد لمقام الحياء؛ سیدنا عثمان بن عفان، وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بحيائه حين هم عثمان بالدخول عليه فاعتدل في جلسته وقال: “ألا أستحيي من رجل تستحيي الملائكة منه” (5).
تحتضن الأم وتربي، وتكون القدوة والمثال، تهمس في أذن ابنتها لتخبرها أن الحياء زينة الفتاة وأنوثتها، هو حياتها القلبية، هو مجلبة للخير ومدفعة للشر، لا سيما والمجتمع طغى عليه الجفاء والتكبر، وغابت فيه معاني الحياء.
من أجل هذا يشجع الصبيان والغلمان والفتيات على كل حمید من الخلق وجميل من الأفعال مما يقربهم إلى الله ويبعدهم من غضب الله؛ الصلاة، والقرآن، والرحمة بالضعيف، والنظافة، والصدق، والحياء..
فالحياء أبو الفضائل، وهو من أهم شعب الإيمان، هو وقاية ذات حدين: حياء من الله وانكماش عن فعل يكرهه الله، وحياء توقير واحترام وأدب ولباقة، فتلك الفضائل، أو ينقلب الحياء على صاحبه فتصبح العافية داء، وذلك الخجل، قاتل الفضائل (6).
ويربت الأب على كتف ابنه، ليعلمه أن الرجولة في كنف الحياءِ احترامٌ ووقار ولياقة وأدب.
يعوّد الأبوان أبناءهما ويعينانهم على ترجمة هذا الخلق سلوکا وفعلا وعملا، فينشأون عليه، ويسعدون به دنيا وآخرة. وحرصهما هذا إنما هو حرص على آخرتهم، وعلى علاقاتهم الإنسانية، لينشدوا التغيير الحقيقي.
ومما يجمل الختام به هو التأكيد على أمرين اثنين:
– البيت الذي يشيع فيه الحياء هو بيت أخلاق وذكر وطمأنينة، وبيت إيمان ونبل وعفة.
– الحياء هو الحافز القوي الذي يدفع الأبناء لتوجيه غرائزهم الوجهة الصحيحة، والتعامل مع جوارحهم وعقولهم بشكل هادف، والتغلب على غرورهم وأنانيتهم. وهذا -لعمري- هو لب الحياء وجوهره.
الإحالات:
(1) مختصر من مفتاح السعادة، لابن القيم، ص 277.
(2) سورة القلم، الآية رقم 4.
(3) ابن عبد البر، التمهيد، ج1، ص 464.
(4) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 267.
(5) صحیح مسلم، رقم الحديث 2401.
(6) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج 2، ص 281.