تتشعّب لديّ الأفكار، فلا أدري بعد بأيها آخذ، ومن منها الأجدر بتتبّعٍ كتابيّ.
هل أكتب عن المرأة؟ فأنا امرأة تجد من العنت ما تجد، وأشدّه عليها حرمانها من ولوج عالم الكتابة، لأسباب أهمها كونها امرأة تابعة، عليها مسئوليات جسام، وفيها عقد النقص ما تشابك مع لحمها وعظمها ونفَسها، حتى باتت أشبه بالركام البشري الذي تشوّهت معالمه وانكمشت كل أسراره تحت أنقاضه.
أم أكتب عن الإنسان في جوهره، وأصل وجوده، وغاية مروره من هذه الدنيا الفانية المُفنية؟
فأنا أولا وآخرا إنسان يتخبّط كما تتخبط الإنسانية جمعاء في ظلم عات، وقسوة شرسة، وذهول تام عن المعنى والجوهر.
أم ربما أكتب عن بعض ما قرأت من كتب: أباطيل وأسمار، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، المتنبي ليتني ما عرفته، القوس العذراء تلك الملحمة الرائعة للأستاذ اللبيب (وما ذكرت من عناوين): أبو فهر، محمود محمد شاكر رحمة الله الواسعة عليه، والذي أغرمت به في الفترة الجامعية ولا زال حبّي له متوقّدا، وإن غفلت عن الكتب والكتابة زمانا.
أم هل أكتب عن السياسة، وهجر الديموقراطية وتبعات ذلك وتداعياته علينا نحن: المواطن؟
وربما أكتب عن الفن فهو رسالة خالدة للإنسان، تُطهّره مما يعانيه ويفتّ في عضده.
أو عن زوجي مهجة فؤادي ذي النظرات الزمردية الحالمة، أو عن أطفالي الثلاثة الذين يؤرقني همهم ليل نهار، ويشلّني خوفي الدائم عليهم؟ تُرى كيف تتلوّع الأم اليمنية والأخرى السورية وتلك الفلسطينية الأبية الصامدة وهي تشاهد رأي العين ما تفعله الحرب الدنيئة في أطفالها؟! تتآكلني الحسرات تباعا عليهن وعلى أطفالهن وعوائلهن كيف تنخرم صورهنّ الجذلى برصاصات غادرة؟!! أبكي فقط أبكي.
عماذا أكتب؟
الكتابة هي اللون الذي أعشق، والمساحة المُبهجة التي أُحبّ الانتماء إليها. هي الروح التي تنتقل إلى ذاتي المنكمشة لتفكّ عنها إصرها وتنطلق بها بعيدا عن واقع سجنها وجعلها كمّا مُهملا..
ما زلت أذكر كيف كنت أكتب بطلاقة وسلاسة، لأعبّر ببساطة وسهولة عن مكنونات قلبي وعن خواطري وأفكاري وآرائي، في كل المسائل التي يشكُل عليّ إبداء الملاحظة عليها كلاما يُفهم..
هل تغيّر الأمر؟
لا أظن، فما زالت الكتابة مرآة صافية لذاتي، ما زلت أستعذبها، وأتلذذ كلما أخرجتُ للوجود مقالة أدبية أو اجتماعية… أو قطعة شعرية، سواء كانت فصيحة أو زجلية بعاميتنا المغربية… وأفرح شديد الفرح حين تنفذ إلى أعماق القارئ، فتُجلّي عنه بعض رين أحزانه، وتتركه ولو هنيهة ليستعيد ذكرى وجوده الحقّ، وأنه إنسان كامل الإنسانية، ما خُلق للذل والمهانة وإنما للتشريف والتعريف وتحقيق العبودية المطلقة لمن وهبنا الحياة وأسمى خلقَنا وخُلقنا سبحانه الملك الوهاب.
بذلك، بذلك فقط أحسّ أني لست شيئا مهملا، ولست دمية معبودة مكدودة، وإنما امرأة كاملة الإنسانية، لها ما لها، وعليها ما عليها، في غير تجاوز مفرط، ولا تخاذل مثبط.
الكتابة عنصر حيوي جدا في حياتي.. والكلمة مقدّسة عندي.
أرجو يوما ما أن يُكتب لما أُسطره على عجل (خشية أن تمنعني جزئية من جزئيات وظيفتي الأمومية عن إتمامه) أن يأخذ حقّه من التكوين اللازم، والتجويد المستمر، وأن يتحقق كتابا أو كتبا تعكس جوهر الإنسان الأصيل وتُسهم ولو بالقليل في رفع بعض العنت الذي يعيشه، وتقدّم له ترياق الكلمة الطيبة وأنوارها المشرقة تستقر عميقا في ذاته الجريحة المنكسرة وتطبّبها وتُبلسِمها. إنه ولي ذلك والقادر عليه سبحانه جل جلاله.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ سورة إبراهيم: 24/25.