يقول ربنا عز وجل: قَالَ رَبِّ اِ۪شْرَحْ لِے صَدْرِے (24) وَيَسِّرْ لِيَ أَمْرِے (25) وَاحْلُلْ عُقْدَةٗ مِّن لِّسَانِے (26) يَفْقَهُواْ قَوْلِے (27) وَاجْعَل لِّے وَزِيراٗ مِّنَ اَهْلِے (28) هَٰرُونَ أَخِےۖ (29) اِ۟شْدُدْ بِهِۦٓ أَزْرِے (30) وَأَشْرِكْهُ فِےٓ أَمْرِے (31) كَےْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراٗ (32) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (33) اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراٗۖ (34)[سورة طه آية 24-34].
بعد عشر سنوات من الغياب، اشتاق سيدنا موسى عليه السلام للأهل والأحباب، فعزم على شدّ الرحال نحو أرض الوطن… وليفعل الفرعون ما يحلو له… فالأهل والوطن لا يقدّرون بثمن.
وبعدما دخل مدين شريدا طريدا بلا أهل ولا مال… ها هو ذا يخرج منها –بفضل الملك الوهاب- بقطيع غنم وزوج وعيال.
كان الطريق طويلا والسفر شاقّا. وفي إحدى ليالي سفره ذاك، تاه ولم يعد يعرف وجهته. وبينما هو في حيرة من أمره – في ليلة من ليالي الشتاء الطويلة، القارس بردها، الدامس ظلامها- رأى عن بعد نارا، فقال لأهله: امْكُثُوٓاْ إِنِّيَ ءَانَسْتُ نَاراٗ لَّعَلِّيَ ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ اَوَ اَجِدُ عَلَى اَ۬لنّ۪ارِ هُدى (9)[سورة طه آية 09]، لم يكن ؑ يعلم بأنّ ربّ العزّة سبحانه قد أعدّ له أمرا لم يخطر له على بال ولا طاف له بخيال.
وانطلق نحو النّار أو بالأحرى نحو ما ظنّه نارا، فلما أتاها كانت المفاجأة عظيمة جدّا، فقد كلّمه المولى عزّ وجلّ: فَلَمَّآ أَت۪يٰهَا نُودِيَ يَٰمُوس۪ى (10) إِنِّيَ أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اِ۬لْمُقَدَّسِ طُو۪ى (11) وَأَنَا اَ۪خْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوح۪ى (12) إِنَّنِيَ أَنَا اَ۬للَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا فَاعْبُدْنِے وَأَقِمِ اِ۬لصَّلَوٰةَ لِذِكْرِيَۖ (13) إِنَّ اَ۬لسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ اَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْز۪ى كُلُّ نَفْسِۢ بِمَا تَسْع۪ى (14) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُومِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَو۪يٰهُ فَتَرْد۪ى (15)[سورة طه آية 10-15]، كان الأمر فوق تصور سيدنا موسى عليه السلام… فوق قدرة استيعابه… كان أمرا غريبا لم يحدث من قبل، فقد كان سبحانه يوحي إلى أنبيائه و أصفيائه ما يشاء عن طريق الملك أو مناما، لكن أن يكلّم عبدا من عباده من وراء حجاب بلا واسطة فهذا شيء عجيب. ويطلب منه المولى عز وجل أن يخلع نعليه أدبا في الحضرة القدسية في الواد المقدّس المطهر من الأرجاس الحسية والمعنوية، المسمى “طوى”، وحسْبُ هذا الوادي شرفا أن تجلى الحقّ فيه، وكلّم سيدنا موسى-عليه السلام- تكليما.
ويفصح له –سبحانه – عن نفسه، ويخبره عن اختياره واصطفائه، ثمّ يذكّره بوظيفته، وهي نفس الوظيفة التي خلق الخلق جميعا لأجل القيام بها: فَاعْبُدْنِے وَأَقِمِ اِ۬لصَّلَوٰةَ لِذِكْرِيَۖ واعلم يا موسى أنّ الساعة حقّ… وأنها آتية لا مفرّ منها، فاسع لها سعيها، وأعدّ لها زادها.
ثمّ سأله –سبحانه- عن عصاه التي يحمل في يده… تلك العصا التي يعرفها سيدنا موسى حقّ المعرفة… والتي صاحبته واستأنس بها لسنين. سأله عن ماهيتها، وكان يكفي سيدنا موسى-عليه السلام- أن يجيب قائلا: هِيَ عَصَايَ، لكنّه أطنب في الحديث عن عصاه حتى يطول الحوار بينه وبين ربّه –عزّ وجلّ- مستلذا حلاوة القرب، مستشعرا دفء المعية، مستأنسا بالحضرة العلية: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِے وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخْرى (17)،فأمره ربّه برميها أرضا، قَالَ أَلْقِهَا يَٰمُوس۪يٰۖ(18) فلما ألقاها تحوّلت إلى حيّة عظيمة وأخذت تزحف وتهتزّ، فخاف سيدنا موسى –عليه السلام- خوفا شديدا وانطلق هاربا و لم يلتفت. حقّا إنّ حقيقة الأشياء ليست ما تراه الأعين، فهذه كانت عصا، لكنّها أضحت بأمر ربّها جانّا وحيّة عظيمة.
يا موسى لا تخف… يا موسى إذا كنتَ معي، كنتُ معك… وإذا كنت معك لا تخش شيئا… فأنا ربّ كلّ شيء، قاهر كلّ شيء، و لي يخضع كلّ شيء، و أنا أعطيك الأمان و لن يضرّك معي شيء: يَٰمُوس۪يٰٓ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفِۖ اِنَّكَ مِنَ اَ۬لَامِنِينَۖ (31)[سورة القصص آية 31] خذ عصاك يا موسى خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا اَ۬لُاول۪يٰۖ[سورة طه آية 20].
و بعدما أراه آيتين عظيمتين، كلّفه بمهمة: اَ۪ذْهَبِ اِلَيٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغ۪يٰۖ(23)[سورة طه آية 23]، وفي هذه اللحظة التي يقف فيها الكون ساكنا عاجزا عن وصف جمالها و أنوارها و أشواقها وأذواقها… في هذه اللحظة بالذات حيث العبد موسى-عليه السلام- في حضرة ربه العظيم الكريم، يحس بحلاوة الحفاوة و الرضى والتكريم، يغتنم الفرصة فيسأله كل ما يساعده على أداء هذه المهمة العسيرة، ويكفل له الاستقامة على طريق الرسالة. فيتوجّه إلى ربّه متذللا سائلا:
رَبِّ اِ۪شْرَحْ لِے صَدْرِے (24) ربّ اشرح لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك، وأجترئ به على خطاب فرعون، فمتى ما انشرح الصدر، أصبح التكليف متعة ولذّة.
وَيَسِّرْ لِيَ أَمْرِے (25) وسهل عليّ القيام بما تكلّفني من الرسالة، وتحملّني من الطاعة،
وَاحْلُلْ عُقْدَةٗ مِّن لِّسَانِے (26) يَفْقَهُواْ قَوْلِے (27) وأطلق لساني بالمنطق حتى يفقهوا عني ما أخاطبهم وأراجعهم به من الكلام.
وفي الحضرة القدسية العليّة، تظهر حقيقة قلب سيدنا موسى، فيشرق منه نقاء الطويّة، وينبثق عنه صفاء النيّة، ويتذكّر في حضرة الملك أخاه هارون ولا تستحوذ عليه الأنانية… ورغم أنّه لم ير طيفه منذ عشر سنين إلا أنّ القلوب الطاهرة لا تنسى أحبّتها، فالعلاقة بينها ليست علاقة أشباح تغيب بغياب الجسد عن الجسد، إنّما هي علاقة أرواح تستمر إلى الأبد. ولذلك يقول أهل الله: “من لم يذكر أخاه في مواطن الدعاء، فمحبته له ادعاء” 1. وسيدنا موسى عليه السلام يحبّ أخاه هارون بصدق، لذلك لم ينسه في حضرة الملك-سبحانه-وطلب له حقيبة وزارية: وَاجْعَل لِّے وَزِيراٗ مِّنَ اَهْلِے (28) هَٰرُونَ أَخِےۖ (29). إنه منصب الوزارة الذي تشرئب له أعناق أهل الدنيا، لكن ما طلبه سيدنا موسى لأخيه، كان فوق ما يتمنّاه أهل الدنيا. فهم يريدون الدنيا وهو يريد لأخيه الآخرة، لذلك سأل له الوزارة في سلك الدعوة لا في سلك الدولة… وشتان بين هذه وتلك.
ويا سعد سيدنا هارون بأخيه موسى…!
وهل أحد أمنّ على أخيه، من سيدنا موسى على أخيه هارون –عليهما السلام-!
نِعْم الأخ… أخ يذكرك عند ربّه في غيابك، ويسأله حاجتك، ويرفع له مسألتك…
نِعْم الأخ… أخ يقضي حاجتك قبل حاجته… يفرح لفرحك، ويحزن لحزنك…ولا يهدأ له بال حتى يراك بخير…
سَأَشكُرُ عمرا إِن تَراخَت منيّتــــــــي أَيادِيَ لَم تُمنَن وَإِن هي جَلّــــــــت
فَتىً غَير مَحجوب الغنى عَن صَديقِه وَلا مُظهِرُ الشَّكوى إِذا النَّعل زَلّت
رَأى خلّتي من حَيثُ يَخفى مَكانهـــا فَكانَت قَذى عَينَيهِ حَتّى تَجَلّــــــت 2
قيل لابن السماك – محمد بن صبيح-: “أي الإخوان أحق بإبقاء المودة؟ قال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله.”
اِ۟شْدُدْ بِهِۦٓ أَزْرِے (30) أي قوّ به وقِ به ظهري، وأعِنّي به على غيري، فالأخ ظهر وسند، وعون وعضد. لذلك يروى أنّ رجلا خاصم أهله وإخوته وقبيلته، وخرج هائما على وجهه في الفيافي والقفار، فاعترض طريقه قطاع الطرق وأثخنوه ضربا. فكانوا يضربون وجهه وبطنه وهو يصيح: وا ظهري… وا ظهري. فأخذوه إلى رئيسهم متعجبين، قالوا: لقد أمسكنا بهذا الرجل، لكن رابنا منه شيء. قال: وما ذاك؟ قالوا: نضرب وجهه وبطنه، وهو يصيح: وا ظهراه. فقال زعيم العصابة: اضربوه أمام عيني. ففعلوا، وصاح الرجل: وا ظهراه. فقال الزعيم مستغربا: لم يضربون بطنك وتشكو ظهرك. فقال المسكين: أما إنّي هجرت إخوتي وأهلي وكانوا لي ظهرا، فلو كانوا معي ما استطعتم إليّ سبيلا، لكنّي فرطت بهم وها أنا أؤدي الثمن.
وَأَشْرِكْهُ فِےٓ أَمْرِے (31) أي اجعله نبيا كما جعلتني نبيا، وأرسله معي إلى فرعون حتى نكون في الأمر سويا.
وَأَشْرِكْهُ فِےٓ أَمْرِے (31) لم يقل سيدنا موسى واجعله تابعا لي، يأتمر بأمري… بل قال أشركه في أمري… اجعلنا شركاء في هذا الأمر.
وإنها لالتفاتة مشرقة من سيدنا موسى عليه السلام… فمتى ما جعلت أخا دعوتك تابعا، مضى معك متثاقلا مقهورا، ومتى ما جعلته شريكا، مضى معك نشطا مسرورا. أما ترى لو أنّك فتحت محلاّ للتجارة ثمّ ملأته بضاعة، وأتيت بأجير وقلت له: هذا المحلّ محلّي، والبضاعة بضاعتي، وأنت أجير عندي، فاعمل وسأعطيك أجرك آخر الشهر أو الأسبوع. فإنّك بعد أشهر ستكتشف بأن الربح قليل والتجارة كاسدة… هذا إن لم تكتشف اختلاسات وسرقات. أمّا لو أنك فعلت ما فعلت ثمّ أتيت بأجير وقلت له: هذا المحل محلّنا، والبضاعة بضاعتنا، والربح نصف بيننا، فكن على يقين بأنّ هذا الأجير سينمي تلك التجارة، وسيجدد ويبتدع، ويبتكر ويخترع.
فأعظم خطر يهدّد الدعوة هو أن تحكمها طقوس الدولة، و يتسرب إليها الاستبداد و الأنانية المستعلية، و تغيّب الشورى، و تُحجَب النصيحة، و ينعدم مفهوم التشارك في الأمر، و يصيح فرعون الهوى: مَآ أُرِيكُمُۥٓ إِلَّا مَآ أَر۪يٰ وَمَآ أَهْدِيكُمُۥٓ إِلَّا سَبِيلَ اَ۬لرَّشَادِۖ [سورة غافر آية 29].
كَےْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراٗ (32) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (33) اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراٗۖ وكلّ ما طلبه سيدنا موسى لحد الآن ما هو إلا من أجل هذا.
فالإخوة ثلاثة: أخ التنافس، وأخ التآنس، وخير منها أخ التّجالس، فمع هذا الأخير تحقّ محبّة الله. فأخ تتنافس معه في الدراسة، في العمل، في التجارة، وأخ تأنس به وبحديثه وأنتما في المقهى أو في سفر أو على شاطئ البحر، لكن أفضل من هاذين أخ تجمعك به مجالس العلم والإيمان، مجالس الذكر والقرآن، مجالس النصح والشفا بالصلاة على المصطفى العدنان.
وهنا أتساءل: من يطلب العون… ولم؟
سيدنا موسى الشاب القوي الذي وكز رجلا من شيعة فرعون فقضى عليه، ورماه قتيلا بضربة واحدة…؟
سيدنا موسى الذي قضى في الصحراء القاحلة سبعة أيام، بلا شراب ولا طعام، غير مكترث لوحوش البرية ولا خائف من الهوام؟
سيدنا موسى الذي ورد ماء مدين، فرأى امرأتين تردّان غنمهما عن غنم القوم، وتنتظران أن يرحل الرعاة لتسقيا غنمهما فضل الماء، فيقوم برفع حجر يضعه عشرة من الرعاة على فم البئر، ويسقي غنم المرأتين، وهو لم يذق ذواقا منذ أزيد من سبعة أيام؟
هذا الرجل القوي، يظهر ضعفا كبيرا الآن ويسأل الله أن يسانده بأخيه هارون ليس فقط من أجل مواجهة فرعون، بل من أجل تسبيحه وذكره. فكأنما يشير لنا من طرف خفي ويقول لنا إنّكم لن تقدروا على السير إلى الله وحدكم، فاستعينوا بإخوتكم، اجتمعوا على العبادة والذكر، فذاك أدعى أن تداوموا وتُكثروا، ذاك أدعى أن تثبتوا وتستمروا. أما علمتم أنّ “يد الله مع الجماعة” 3، لذلك اجتمعوا و تعاونوا و آزروا بعضكم على الذكر و على الصلاة حتى يقوى الضعيف بالقوي، والكسلان بالنشيط.
كَےْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراٗ (32) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (33) اِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراٗۖ فمهمّة خطيرة كمواجهة فرعون وحاشيته، تحتاج ذكرا كثيرا، وتسبيحا كثيرا، واتصالا مستمرا.
ثمّ أنتقل إلى سورة القصص لأجلب منها هذه الإشراقة الرائعة: ففي تواضع كبير و اعتراف بأفضلية الغير، يقول سيدنا موسى مناجيا ربّه: وَأَخِے هَٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّے لِسَاناٗ فَأَرْسِلْهُ مَعِے رِداٗ يُصَدِّقْنِےٓۖ ﴾[سورة القصص آية 34].
لله درّك يا كليم الله، أفي حضرة الملك تستصغر نفسك وترفع من قدر أخيك..؟
أفي حضرة الملك تبيّن ميزة أخيك وأفضليته عليك، أما خشيت أن ينقل المهمّة إليه؟
يا أخي…
يا أخي… ما ضرّك إن اعترفت بأنّ أخاك أفضل منك في مسألة ما… في خُلُق ما…
ما ضرّك… إن اعترفت بفضل الله عليه…
ما ضرّك لو كان عند أخيك موهبة فضّله الله بها عليك، فأخذت بيده، واحتضنته وصقلته ثمّ برّزته؟
ما ضرّك لو فتحت للموهبة صدرا ولم تكن لها قبرا…
يا أخي… إذا رأيت موهبة شعثاء غبراء مدفوعة بالأبواب، فافتح لها بابك فلعلّها تقسم على ربّها فيبرّها فتنال أجرها.
لا تكن صخرة تتحطّم عليها الأفكار والمبادرات، وكن شجرة باسقة تمدّ أذرعها لتبرز عليها المواهب والطاقات.
يا أخي… إنّه لن يمدّ الجُسورَ إلا الجَسور، ولن يرتقي إلا التقي، وسيبقى الحفر اختيارا ضيّق الصدر.
وَأَخِے هَٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّے لِسَاناٗ فَأَرْسِلْهُ مَعِے رِداٗ يُصَدِّقْنِےٓۖ
إنها الأخُوة يا سادة… فاشرحوا لها صدوركم وافتحوا لها قلوبكم…
إنها الأخوة الرافعة الشافعة النافعة… فاستكثروا منها…
والله –يا أخي- لن تعرف حقيقتها إلا بعدما يرحل عنك أخوك بلا إياب، فتقصده مغموما مهموما لتفرغ عليه حملك وتقف عند الباب -وقد اخترته وحده من بين كلّ الأحباب-، ثمّ تتذكّر أنّه ذهب وما آب، فترجع إلى بيتك منكسرا وتدخل فراشك ودموعك على خدّيك تنساب، وتنام على تلك الحال من الحزن والاكتئاب، فيأتيك أخوك من عالم الغيب بصنوف الطعام والشراب، فيطعمك مما لذّ وطاب، ويسقيك لذيذ الشراب، ويكسوك أحسن الثياب، فيذهب عنك الهمّ و الغمّ و الاضطراب… ذاك أخ لن تجده خلف كلّ باب… ألا سلام على أحبّة رحلوا عنّا و أخذوا معهم القلوب و الألباب.
ألا سلام على إخوة لطالما زرعوا فينا الأمل بابتساماتهم الرائقة، ورفعوا عنّا الهمّ والحزن بدعواتهم الصادقة، وكشفوا عنّا الغمّة والألم بزياراتهم ومشاعرهم الدافقة، وكانوا معنا في السرّاء والضرّاء، في الرخاء والضائقة، وما رأينا منهم سوءا ولا حسدا ولا حالقة، فرحوا لفرحنا، وتألموا لألمنا، شبعوا إذ شبعنا، وارتووا حين شربنا، وسعدوا إذ لبسنا الجديد، أو ركبنا الجديد، أو سكنّا الجديد، فاللهم أسعدهم في الدنيا وارفع مقامهم يوم الوعيد.
جَزَى اللَّهُ عَنَّا جَعْفَرًا حِينَ أَزْلَفَـــــــتْ بِنَا نَعْلُنَا فِي الْوَاطِئِينَ فَزَلَّتِ
همُ خلطونا بالنفوس وألــــــــــــجأوا إلى حُجرات أدفأت وأظلّــتِ
أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَـــــــــــــــا تُلاقِي الَّذِي يَلْقَوْنَ مِنَّا لَمَلَّتِ
وقالوا هلمَّ الدارَ حتى تبينـــــــــــــوا وتنجَلي الغَمَاءُ عمَّا تجلّـــَتِ
ومن بعدما كنا لسلمى وأهلـــــــــــها قطيناً وملتنا البلادُ وملــــتِ
سنجزي بإحسانِ الأيادي التي مضت لها عِندنا كبَّرَت وأهَلّــــــتِ 4
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
[2] في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (3: 147) طبعة النهضة، أنّ هذه الأبيات تنسب إلى إبراهيم بن العباس الصولي من العصر العباسي، و كان بينه و بين عمرو بن مسعدة مودة
[3] أخرجه الترمذي (2167) واللفظ له، والحاكم (397)عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[4] هذه الأبيات لطفيل بن عوف بن كعب، من بني غني، من قيس عيلان. شاعر جاهلي فحل، من الشجعان. وهو أوصف العرب للخيل.