تحل هذه الأيام الذكرى السابعة للاعتقال الظالم للسيد عمر محب عضو جماعة العدل والإحسان، وهي مناسبة لطرح تساؤلات قديمة جديدة حول الثابت والمتغير في النسق السياسي المغربي، في ظل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعهد الجديد ودولة المؤسسات واستقلالية القضاء…
تساؤل أيضا حول الفاعل السياسي والحقوقي والثقافي ودوره في المشهد السياسي والمجتمعي.
1- محنة محب: مكر السياسة وتواطؤ القضاء
يقضي السيد عمر محب عقوبة سجنية عقب حكم قضائي قاس وجائر صدر في حقه سنة 2006 على خلفية أحداث العنف التي وقعت بفاس سنة 1992، أدت إلى مقتل الطالب اليساري بن عيسى آيت الجيد في ظروف غامضة وملتبسة. ليتم حينها اتهام أطراف وإدانتهم في القضية دون أن يكون السيد عمر محب بينهم.
بعد أربعة عشر سنة تفتح القضية من جديد في محاكمة صورية انعدمت فيها كل ضمانات المحاكمة العادلة؛ عطلت قرينة البراءة واستبعدت إفادات الشهود وبقدرة قادر يصبح بريء الأمس مدانا والمدان شاهد إثبات فوق العادة، فتكيف القضية من جديد ويتابع السيد عمر محب ويحكم عليه بعشر سنوات سجنا نافذا وتتأكد حقيقة مريرة مفادها “أنت مدان وإن ثبتت براءتك”.
لكن لماذا كل ذلك؟ ما الذي اقترفه الرجل في دولة قيل أنها دولة “الحق والقانون وحقوق الإنسان”… حتى يلاقي هذا المصير؟
إن المتتبع للمشهد العام بالمغرب منذ أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الحالية لا يجد صعوبة في إيجاد الجواب وفهم الذي يقع. خصوصا عند استحضار مختلف السياقات الدولية والإقليمية والمحلية، في تقاطعاتها وتداعياتها الاجتماعية والسياسية والأمنية.
لعل ظهور جماعة العدل والإحسان كمكون وفاعل مجتمعي وسياسي له خصوصيات ومميزاته على مستوى التصورات والثوابت وكذا المواقف والمبادرات التي لا تتوانى دعم ونصرة المظلومين والمستضعفين حيثما وجدوا، كما لا تجد حرجا في قول كلمة الحق والصدع بها وتسمية الأشياء بمسمياتها دون مواربة أو التفاف. كل ذلك جعل هذه الجماعة مستهدفة من طرف النظام بحملات متتالية ومسعورة لتضييق الخناق عليها ومتابعة رموزها وكوادرها بملفات مفبركة والتشهير بهم في مسعى لثنيهم عن نهجهم السلمي واستدراجهم إلى ردود أفعال تدخل الجماعة بشكل عام في دائرة العنف وتحد من تغلغلها وانتشارها وسط المجتمع عبر أنشطتها الدعوية والتربوية والإشعاعية التي تعرف تجاوبا واحتراما من قبل مختلف المكونات المجتمعية.
لقد حاول النظام تنويع ومضاعفة وسائل الضغط والحصار على الجماعة لتصفية الحسابات ولتوفير احتياطي من أوراق الضغط والمساومة عبر الاعتقالات الجائرة والغرامات القاسية وتشميع للبيوت والمقرات ومنع الجمعيات والمخيمات… كل ذلك، علّ الجماعة تخضع يوما وتلج بيت الطاعة على غرار من سبقها، إلا أنه وفي كل محاولة يخيب سعيه أمام رجال مؤمنين محتسبين، سلاحهم “حسبنا الله ونعم الوكيل” مسلمين بأن قدر الله وموعوده لا راد لهما. ولعل قضية المعتقلين الاثني عشر خير شاهد على ذلك، حيث أمضوا أزيد من ثمانية عشر سنة سجنا ظلما وجورا دون أن تخضع أنفسهم لمساومات النظام وإغراءاته. وليس عمر محب بأقل منهم عزيمة وإيمانا وصبرا، رغم شدة الظلم وقسوة الاعتقال…
2- محنة محب: مناسبة للتأمل والبناء
قضية عمر محب ومظلوميته تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الشعارات التي طالما تشدق بها المستفيدون والانتهازيون ليست في الحقيقة سوى ضربا من الوهم والتدليس هدفه الوحيد إبقاء دار لقمان على حالها تحت مسوغ “الحفاظ على الأمن والاستقرار ودرء الفتنة”. كما أن الرهان على خيار الإصلاح من الداخل مهما صدقت نوايا أصحابه ومرجعياتهم، لا يعدو أن يصبح انصهارا في منظومة الظلم و بنية الفساد، دوره التأثيث والترسيخ وإضفاء المشروعية؛ خصوصا مع اختلال التوازن وتحكم قوى الدولة العميقة في دواليب الحكم ومؤسساته…
إن حرص النظام وإمعانه في خلق واذكاء الخصومات والعداوات السياسية والفكرية بين الفرقاء المجتمعيين خصوصا تلك التي تتبنى أفكارا ومشاريع تقوم على إعادة تشكيل بنية الحكم على أسس ومشروعيات جديدة قوامها العدالة والكرامة وربط المسؤولية بالمحاسبة… لدليل واضح على أن الخيار الوحيد والأنجع لتجاوز الواقع الحالي هو السمو بالوعي الجماعي لدى كافة القوى المجتمعية الحية إلى مستوى اللحظة التاريخية والمسؤولية المجتمعية المنبثقة من وحدة الخندق ووحدة المصير فالخصم شرس ومتمرس، ولن يدخر جهدا في خلق أجواء الصدام والتوتر لإلهاء كل طرف بالأخر وشغل الجميع عن مواجهته والتصدي له.
هي مسؤولية النخب السياسية والمثقفة من كل المواقع والمشارب لتأسيس هذا الوعي وتأطير الفعل المجتمعي والتعبئة له، فالتربع على الأبراج العاجية والتفرج من الأعلى، ليس في الحقيقة سوى تخاذل إن لم يكن خيانة وتواطؤا.
هي أيضا مسؤولية الهيئات والمنظمات الحقوقية، ليس فقط في ملف عمر محب، بل في كل القضايا والملفات التي تنتهك فيها كرامة الإنسان وآدميته. فالدفاع عن حقوق الإنسان في بعدها الكوني والشمولي يستلزم الترفع عن الاصطفاف والانتقاء على خلفية سياسية أو إيديولوجية.
المسؤولية إذن عامة والمدخل يقتضي الانخراط الفعلي والجاد في فعل موحد وشامل، قائم على تحقيق أوسع معدلات التوافق المجتمعي وصياغتها في شكل تعاقدات تبني الثقة وتشكل قوة الدفع اللازمة لإحداث التغيير المنشود. فمحنة عمر محب ليست الأولى ولن تكون بالطبع الأخيرة؛ وبقدر حرصنا على حريته وسلامته ودعوتنا كل الضمائر الحية للدعم والمساندة، بقدر ما نقول ونؤكد أن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هي مطالب الشعب المغربي قاطبة ولأجلها خرج ولازال يخرج بمختلف ربوع البلاد، في احتجاجات سلمية وحضارية رغم إجراءات القمع والتنكيل والتخوين التي تلجأ إليها الدولة في إطار مقاربتها الامنية.
في الأخير ندعو الله سبحانه وتعالى أن يعجل بالفرج والحرية على السيد عمر محب وعلى كل المظلومين والمستضعفين ونقول لكل الطغاة والمستبدين: “إن الظلم ظلمات يوم القيامة”، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون صدق الله العظيم . (الشعراء: 277).