ارتقاء من وأد التقليد إلى يفاع الاستبصار، وانسلاخا من ذلة ومهانة واستخذاء بدت متربصة بالأمة، وخروجا من انتكاس بعد شفاء وارتكاس بعد صفاء، كان لزاما على المحققين معرفة خميرة النهوض وسبل عزة كانت تتسجى بها الأمة في وقت مضى، وحين كان صلاح آخر هذه الأمة رهينا بصلاح أولها كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس (رضي الله عنه)، نرى لزاما ضرورة معرفة قواعد الإصلاح الأول لأنه لا سبيل إلى قطع مفاوز إصلاح حقيقي إلا بمعرفة ما كان عليه العالم قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكيف أصبح بمجيئه، لاسيما عندما ظهر الدين الإسلامي في الآفاق، وهذا الاستقراء لجاهلية القرن السادس الميلادي قد يكون قبسات مضيئة وصوى منيرة لنا في طريق البحث.
فالذي يعرفه القاصي والداني أن العالم قبل مجيء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان مصابا بأمراض خلقية وعمرانية واقتصادية وسياسية تقتضي طبيبا نطاسيا يعالجها ويخفف من آلامها، فهناك تسلط قوى عظمى كروما وفارس أفضى قطعا إلى استعباد الإنسان وإذلاله وازدرائه وانتهاك كرامته، فهناك تناحر بين البشر، وفوق كل ذلك أخلاق ذميمة فاشية في سائر أقطار العالم. وكذلك بلاد العرب نفسها لم تكن آمنة مطمئنة وفيها ما فيها من معضلات تحتاج في حلها إلى زعيم حاذق بأدواء الأمم، فإن القوم قد عمهم الجهل وغشيهم الظلم والانغماس في حمأة الأدناس والأرجاس والفقر المدقع والفوضى العارمة التي ألهبت البلاد بغارات مباغتة وحروب أهلية أضعفت جسم الأمة فكانت فريسة لقوى الاستكبار العالمي، فالبلدان الساحلية العربية إلى بلاد اليمن ومقاطعة العراق الخصيبة كلها كانت خاضعة للفرس، وفي الشمال كان قد تسرب النفوذ الرومي إلى ثغور الحجاز نفسها أو كاد، وإن تعجب فعجب تغلغل اليهود الماليين في أعماق الحجاز، واتخاذهم فيها لأنفسهم حصونا منيعة بتعاملهم الربوي وإيقاع العرب في حبائلهم ونشب أظافرهم في لحومهم وأبدانهم، وبإزاء شاطئها الغربي كان يرفرف لواء مملكة الحبشة النصرانية التي تولت كبد الغارة على مكة منذ قليل من السنين… إنه فساد عالمي سرى في عروق الحياة الاجتماعية آنذاك لم تستطع تلك القبسات الخافتة التي كانت تشع من بعض الأديرة والكنائس أن تحد من غلوائه أو أن تكبح من هيجانه لأنه إذا سدت ثلمة منه نبعت ثلمات أخرى.
لكنه لما بعث الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وحين صاحبه فتية من قريش وانسكب الإيمان في قلوبهم… انحلت العقدة الكبرى، ووقع أغرب انقلاب في تاريخ البشر لأن ما أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس جماعة المهاجرين والأنصار كان أغرب تحول في التاريخ الإنساني، كان غريبا حقا في سرعته وكان غريبا في عمقه وكان غريبا في سعته وشموله.
ألم تر كيف أصبح هؤلاء الذين تخرجوا من مدرسته عليه السلام حائزين على قصبات السباق بلا نزاع، مستولين على الأمد علما وعملا، واردين رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، مشيدين قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا… فتحوا قلوبا بالقرآن والإيمان، وقرى بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا كما قال ابن القيم رحمه الله.
ثم إنه إذا تنسمنا نفحات من سيرتهم العطرة عرفنا قدرهم وعظم التربية النبوية التي أخرجت للدنيا أمثال هؤلاء لنَعُب من مشكاتهم الطاهرة قبل أن نفصل في أسباب ذلك التحول.
يقول ابن حزم: (فأما الصحابة رضي الله عنهم، فهم كل من جالس النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة وسمع منه كلمة فما فوقها أو شاهد منه عليه السلام أمرا يعيه ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر، حتى ماتوا على ذلك… وكلهم عدل إمام فاضل رضى، فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم وأن نستغفر لهم، ونحبهم، وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقة أحدنا بما يملك… وجلسة الواحد منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عبادة أحدنا دهره كله، ولو عمر أحدنا الدهر كله في طاعات متصلة ما وازى عمل امرئ صحب النبي صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة فما فوقها… قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه”) 1. وإنما حكم العلماء بأن مجالسة ساعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو مشاهدة لحظة أو سماع كلمة فما فوقها منه عليه الصلاة والسلام تكسب صاحبها اسم (الصحابي) لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن لرؤية نور النبوة قوة سريان في قلب المؤمن فتظهر آثارها على جوارح الرائي طاعة واستقامة مدى الحياة بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة، ويشهد لذلك ما رواه الصحابي الجليل عبد الله بن بسر عنه صلى الله عليه وسلم: “طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني، ولمن رأى من رأى من رآني وآمن بي، طوبى لهم وحسن مآب” 2. بل إن المنتظم في سلك هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم قد يكون الواحد منهم سببا لنزول شآبيب الرحمة والخيرات والفتح على المسلمين كلهم. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثاني هل فيهم من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث فيقال انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به” 3. فلا عجب أن يكون هذا الجيل مصطفى على باقي الأجيال ومزايلا لهم في الفضل والعلم والشرف. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن” 4.
إنه اصطفاء واجتباء تجلى علما في ارتقاء هؤلاء الأفذاذ إلى الذروة من الفهم الثاقب والمروءة العالية، وتزكية بطهارة قلوب نورت بمصابيح المعرفة ووجوه زينت بسيماء الطاعة وأطراف ذابت من خوف القطيعة فكانوا مرضيين عند الله عز وجل، قال سبحانه: لقد رضي الله على المومنين إذ يبايعونك تحت الشجرة 5، ومحبوبين كذلك: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المومنين أعزة على الكافرين 6. وإجمالا فهناك آيات كثيرة وأحاديث مستفيضة شملتهم بكل وصف جميل وثناء حسن تقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم وصفائهم، قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس 7.
والخطاب في هذه الآية موجه للصحابة رضوان الله عليهم، وفي قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم… إلى قوله سبحانه: ذلك مثلهم في التوراة 8. رأى بعض المفسرين بأن الصحابة قد ذكروا في صفحة القَدر قبل أن يخلقوا، ووصفوا بسمات الطهر من قبل أنبياء سابقين علما أو عملا وتزكية.
فمن حيث علمهم، أجمع المحققون أن الصحابة رضوان الله عليهم حين طرق القرآن صماخ آذانهم واستكن في أعماق قلوبهم، وترسخ في أوصالهم، هبوا مسرعين لفهمه وتدبره وإدراك دلالات ألفاظه وخفاء مبانيه، وانبروا لاستنباط الأحكام الشرعية منه بتتلمذهم على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعبهم من مشكاة النبوة وصبرهم على ذلك مع العلم بأن القوم كانوا لُسنا فصحاء قد وصلوا إلى القمة في البيان العربي، ومما دفعهم للتعلم والرشاد والإسراع لاقتناص الحكم… سماعهم نصوصا تشرف العلم والعلماء، منه قوله تعالى: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم 9. وقوله سبحانه: وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون 10. وقال كذلك: يرفع الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات 11، والآيات كثيرة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” 12. وعند الطبراني في الكبير: (إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، وإنما يخشى الله من عباده العلماء).
وفي تفاوت قابلية الناس للعلم يقول عليه الصلاة والسلام: “إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به” 13.
وانظر إلى صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه عندما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على برد له أحمر، فقال: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: “مرحبا بطالب العلم، إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب” 14.
ومما ألهب جذوة العلم في أنفس هؤلاء السعداء شخصية معلمهم صلى الله عليه وسلم الذي لم يبعث معنفا ولا متعنتا ولكنه بعث معلما ميسرا… ومن تأمل حسن رعايته للعرب مع قسوة طباعهم وشدة خشونتهم وتنافر أمزجتهم، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على آذاهم إلى أن انقادوا إليه، والتفوا حوله، وقاتلوا معه أعز الناس عندهم آباءهم وأقاربهم… بدى له واضحا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول الذي غير مجرى التاريخ بهؤلاء المتعلمين قال تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمومنين رؤوف رحيم 15. وقال عز وجل: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلوا عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 16.
وروى مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه عندما زجره الصحابة في الصلاة قال: “لما صلى رسول صلى الله عليه وسلم دعاني، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني ولا شتمني…” 17.
قال الإمام النووي تعليقا على هذا الحديث: (وفيه بيان ما كان عليه رسول صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ومن رفقه بالجاهل ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل وحسن تعليمه واللطف به وتقريب الصواب إليه) 18.
وبعد… فأي معلم من المربين تخرج على يديه عدد أوفر وأهدى من هذا الرسول الكريم الذي تخرج به هؤلاء الأصحاب؟ فكيف كانوا قبله؟ وكيف صاروا بعده؟ إن كل واحد من هؤلاء الأصحاب دليل ناطق على عظم هذا المعلم الذي لو لم يكن له معجزة سوى أصحابه لكفوه لإثبات نبوته… ومن تلمس سيرة الرسول في تعليم أصحابه وبناء عقولهم ظهرت له أسس علمية وقواعد تعليمية نهجها المعلم الأول في تعليم أصحابه، أفلا نكون راشدين فنستنبطها ونخرجها من المضيق إلى الفضاء لتكون عونا لنا في إعادة بناء هذه الأمة لاسيما وأن تلك الأسس العلمية قد اندرس معظمها وأفل وهجها وطمست أكثر معالمها؟
ويحق لنا كذلك أن نتساءل عن الأسس العملية الوجدانية التي غيرت قلوبا، وقلبت أنفسا، فصاغت صحابة عابدين زاهدين، ألم تر كيف أنهم كانوا: يبيتون لربهم سجدا وقياما 19، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون 20، كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم 21، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود 22 … والآيات كثيرة، وإنما المقصود أن جيل الصحابة جيل عابد، عامل بالقرآن، جاهدوا أنفسهم وأزالوا أمراضها وأدخلوها إلى كير التخويف بل طرقوها بمطارق الأمر والنهي حتى أجهدوها ثم فطموها عن العلائق والإعراض عن الخلائق حتى أماتوا من أنفسهم ما كان حيا، وأحيوا من قلوبهم ما كان ميتا، فأصبحت لحظاتهم لحظات أنس وبهجة ولذة ونعيم.
لقد خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، قال مالك بن أنس رضي الله عنه: (بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة) 23.
إذا سكن الغدير على صفاء
وجنب أن يحركه النسيــم
بدت فيه السماء بلا امتـراء
كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك وجوه أرباب التجلـي
يرى في صفوها الله العظيـم
وهاك قبسات في تعبد هؤلاء وإقبالهم على الارتقاء في مدارج الإيمان والإيقان صعودا… فعن الزبير بن عبد الله عن زهيمة قالت: كان عثمان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله 24، وحكى عبد الرحمن التيمي أنه قال: (لأغلبن الليلة على المقام، قال: فلما صليت العتمة تخلصت إلى المقام حتى قمت فيه، فبينما أنا قائم إذا رجل وضع يده بين كتفي، فإذا هو عثمان بن عفان، فبدأ بأم القرآن، فقرأ حتى ختم القرآن، فركع وسجد ثم أخذ نعليه، فلا أدري أصلى قبل ذلك شيئا أم لا) 25.
وقال ابن كثير في ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كان يصلى بالنساء العشاء حتى يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر، وما مات حتى سرد الصوم) 26.
قال فيه صلى الله عليه وسلم: “لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “من نبي ولا محدث”” 27.
وهذا سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: “إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو ومالنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط” 28. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (كان تميم يختم القرآن في ركعة واحدة، وربما ردد الآية الواحدة الليل كله حتى الصبا) 29.
وعن نافع أن ابن عمر كان إذا فاتته صلاة العشاء في جماعة أحيى بقية ليله…
ثم انظر إلى تقشف هؤلاء الجبال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته…” 30 والحق أن تسابق هؤلاء للخيرات والفضائل وتجردهم للعبادة لم يكن سائقهم في ذلك إلا الاستنان بهدي أعبد الناس وأتقاهم صلى الله عليه وسلم. ففي خبر صحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه فقالت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: “أفلا أكون عبدا شكورا” 31. وكان عليه الصلاة والسلام “إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله. وجد وشد المئزر” 32.
وعن أبي حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: “صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع…” 33.
وأخرج النسائي عن خباب بن الأرث أنه راقب الرسول صلى الله عليه وسلم الليلة كلها وهو يصلي حتى أصبح، فلما سأله عن ذلك قال: “إنها صلاة رغب ورهب” 34.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأطال السجود حتى هممت بأمر سوء قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه” 35.
ذلك أن الأصحاب رأوه زاهدا غير عابئ بسفاسف الأمور ومغريات الدنيا، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: “لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يجد دقلا يملأ به بطنه” 36.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما شبع آل محمد الله صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض” 37، وعنها كذلك أنها قالت: “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني” 38.
وروت جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أنها قالت: “ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة” 39.
وسمعوه ذاما للملهيات وكذا المغريات صارفا جل الأوقات في التنسك والطاعات زاهدا في الصواد والعلائق والعوائق التي قد تصد السالك عن طريق الآخرة… سمعوه قائلا: “ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس..” 40. و“الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر” 41. وقال أيضا: “ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أوعالما ومتعلما” 42…
والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا يشملها الاستغراق أو الاستقصاء، وإنما كان الهدف بيان ما كان عليه الجيل الفريد في التاريخ من تزكية وورع وزهد وتربية على نفي الحظوظ والإعراض عن العوارض والصواد وأن هذا نتاج نابع من قواعد للتغيير النفسي نهجها المصطفى صلى الله عليه وسلم، سأعمل مستقبلا جاهدا على إيضاحها واستنباطها مستقرئا المظان الحديثية وتفاسير العلماء لاسيما وأن تلك التزكية وأصول التربية النبوية هي التي طهرت هؤلاء الصحابة من لوثة الشرك ودنس الجاهلية ومن الانغماس في الشهوات والنزوات والارتكاس في المستنقع الآسن الذي يزري بإنسانية الإنسان.
إنها قواعد طهرت المجتمع والحياة من الظلم والبغي وسائر اللوثات التي تلطخ وجه الإنسانية، حري بالباحث أن يصرف نفائس أوقاته وزبد الجهد للتنقيب عنها وإفادة المجتمع بها.
إن هذه القبسات لتمثل مشروعا للإصلاح، وتنظيرا للتغيير الجامع بين الفهم والتطبيق والعلم والعمل لاسيما إذا استقرينا تاريخ الحركات الإصلاحية للأنبياء والأصفياء الذين كانوا هم القادة الحقيقيون للتغيير، وربوا أتباعهم على ذلك بدون فصام نكد بين التجريد والواقع أوبين العلم والعمل.
وهكذا فسدا للذرائع وتجنبا لمزالق الذين سبحوا في التجريد، وصاغوا نظريات غريبة عن الواقع أو انحراف الذين أغرقوا في العمل دون فهم أو إدراك سابق له فزلوا عن سوي الصراط… جاءت هذه المساهمة لتطل على قواعد التعليم والتزكية التي نهجها المصطفى صلى الله عليه وسلم في التغيير الأول مصداقا لقوله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 43.
[2] رواه الطبراني بإسناد حسن والحاكم كما في الجامع الصغير للسيوطي بشرح التيسير للناوي (2/119).
[3] مسلم في فضائل الصحابة (4598).
[4] صحيح مسلم (4603).
[5] الفتح، 18.
[6] المائدة، 54.
[7] آل عمران، 110.
[8] الفتح، 29.
[9] العنكبوت، 49.
[10] الحشر، 21.
[11] المجادلة، 11.
[12] البخاري في كتاب العلم رقم 71.
[13] مسلم في الفضائل رقم 2282.
[14] أخرجه أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد.
[15] التوبة، 128.
[16] الجمعة، 2.
[17] مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
[18] صحيح مسلم بشرح النووي، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، رقم 537.
[19] الفرقان، 63.
[20] السجدة، 16.
[21] الذاريات، 15.
[22] الفتح، 39.
[23] تفسير ابن كثير لسورة الفتح (7/362).
[24] الحلية لأبي نعيم رقم 157.
[25] الرياض النضرة للمحب الطبري (1/215).
[26] البداية والنهاية لابن كثير (7/152).
[27] البخاري في فضائل الصحابة 3468.
[28] البخاري في الرقاق، رقم 6088.
[29] سير أعلام النبلاء للذهبي (4/445).
[30] فتح الباري لابن حجر، كتاب الصلاة، أبواب استقبال القبلة رقم 431.
[31] متفق عليه.
[32] متفق عليه.
[33] صحيح مسلم بشرح النووي، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم 772.
[34] النسائي بشرح السيوطي، باب إحياء الليل رقم 1638.
[35] متفق عليه.
[36] مسلم في الزهد والرقائق رقم 2978.
[37] البخاري في الرقاق، رقم 6089.
[38] متفق عليه.
[39] البخاري في الوصايا رقم 2588.
[40] رواه ابن ماجة بسند حسن، انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص 174. الحديث الحادي والثلاثون.
[41] مسلم في الزهد والرقائق 2956.
[42] الترمذي بسند صحيح، كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم 2322.
[43] الجمعة، 2.