فك هذه الرقاب سياسيا، يكون على قدر المسؤولية في الانتخابات، وعلى قدر المساواة في المشاركة في الاستحقاقات (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية…) بين الدولة الراعية للحقوق، والناخبين والمنتخبين المؤدون للواجبات قبل المطالبة بالحقوق، والقضاء العادل في حسم الخلافات والخصومات، وذلك من خلال:
أولا- الإدارة المحايدة:
يخضع تدبير الشأن العام، المحلي والوطني، إلى ثنائية إدارية وسياسية: الأولى تمثل إدارة الدولة، والثانية تمثل إرادة الشعب، في علاقة تلازم، وتكامل، وتوازن بين المسؤولية في التدبير والمساواة في التضحية. لذلك فليس من المعقول أن تتدخل الإدارة في أطوار وأطراف العملية الانتخابية؛ وأن هيبتها لا تعفيها من المثول أمام القضاء العادل في إطار المحاسبة المرتبطة بالمسؤولية، لقطع الطريق أمام الشطط في استعمال السلطة، واستغلال النفوذ. الحياد الإداري يقتضي من الدولة أن تدبر الشأن العام مع كل من أفرزته صناديق الاقتراع، إي الإيمان بالتناوب الذي هو أساس الديمقراطية، ويقتضي أيضا المساواة في التعامل مع صغار النخب وكبارها، المعارضة والأغلبية، دون ميل لاتجاه وإهمال لأخر. الحياد الإداري يجبر الدولة عن التنازل، المؤقت، عن سيادتها لفائدة إرادة الشعب الحرة(السيادة الشعبية)، أثناء الاقتراع أو الاستفتاء، وأن تتعامل مع نتائج الفرز بموضوعية. قل لي متى تكون الإدارة محايدة؟ أقول لك عندما تغيب البيروقراطية.
ثانيا- الناخب الحر والمسؤول:
تستوجب الحرية سعة في الاختيار. الاختيار النسبي: بين الصالح والطالح؛ والاختيار العام: بين المشاركة والمقاطعة، ذلك لأن اختيار الصالح يعد مسمارا يطرقه الناخب الحر في نعش الفساد؛ وأن المقاطعة( المعلنة أو المضمرة) تعد العقاب السياسي العام للعملية الانتخابية، وهي خيار من الخيارات، ودعوة غير مباشرة لإرجاع الطبيعة البشرية إلى فطرتها. الناحب الحر هو الذي يصون صوته؛ فلا يعرضه للمساومة، ولا يقبل به أنصاف الحلول. صوت الناخب الحر مسؤولية، وسلاحه في العراك السياسي، ودليله الاجتماعي في الطريق الديمقراطي، وزاده الاقتصادي في سفر الحياة الطويل، فكلنا يعرف الخطر الذي يتعرض له الأعزل، والتائه، والمعوز، حينما تُنصب له أباطرة الفساد الشباك، وسماسرة الانتخابات الفخاخ، وسعيهم لجعل هؤلاء “العزّل” رهائن سياسيين، وأسرى المعركة الانتخابية تكبيل إرادتهم. هذا الوضع لا إنساني بالنسبة للناخب ولا ديمقراطي بالنسبة للمنتخب، ولا يشرف سيادة الدولة. الناخب الحر هو الذي لا يتنازل عن حريته مهما بلغ الثمن لأن من تنازل عن حريته فقد تنازل عن إنسانيته) 1 ، كما نسب إلى جون جاك روسو. لكن تعددت الحريات، والحرية المسؤولة واحدة. وكثر الأحرار والحر الأصيل بالإشارة يفهم.
ثالثا- المنتخب الملتزم والمؤهل:
مقتضى الالتزام السياسي، يفرض على المنتخب أن يكون مؤهلا: أهلية الوجوب التي هي الصلاحية لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات، وأهلية الأداء التي هي نوع من التعبير والإرادة والقدرة على مباشرة التصرفات. وأن يكون أيضا مسؤولا عن تصرفاته السياسية. إن صعوبة التلازم بين الأهلية والمسؤولية، هي عاهة سياسية من عاهات المشهد الحزبي المغربي، حيث تجد “التزكية السياسية” تمنح لأرنب السباق الانتخابي أو لكبش الفداء السياسي- حاشا الفضلاء والشرفاء- ولا علاقة لذلك بالأيديولوجية الحزبية أو بالبرنامج الانتخابي الحزبي، أو حتى بالمصلحة العامة؛ تزكية بركماتية نفعية، تفسح المجال للترحال السياسي، وتجعل المنتخب تائها ومنشغلا عن الناخبين، وتزكية كاريزمية تجلب الأعيان عبر إعارة المحترفين السياسيين. هذا الاختلال نابع من عدم وفاء الأحزاب السياسية لالتزاماتها الدستورية، كما هو في الفصل 7 من دستور2011م تأطير المواطنات والمواطنين، وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام. كما يساهم في التعبير عن إرادة الناخبين ويشارك في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسة الدستورية). الأمر يقتضي هبة سياسية، يصحح فيها التصور السياسي للأحزاب، وينسجم فيها خطابها السياسي بفعلها السياسي. وتبقى أهلية المنتخب المناسب نسبية، حتى يشهد عليه التزامه، أ أوفى به، أم غدر؟ لكن مصير الأمة لا يحتمل التسويف، ولا يدرك بتسويق الوهم.
رابعا-القضاء العادل:
غالبا ما يتم ربط عدالة القضاء باستقلاليته، تنزيها عن القضاء الصوري، إلا أن العدالة في حاجة، علاوة على هذا الضامن الموضوعي، إلى فلسفة قضائية باعتبارها الضامن الذاتي، يتم فيها الانتصار للحق، لا التحايل لإثباته، والاعتراف بالحق لا الاعتراض عليه. المقاربة القضائية العادلة= استقلالية قضائية عن الإدارة + فلسفة قضائية لدى المتقاضيين؛ هذه الفلسفة التي يفتقر إليها القضاء المعاصر، هي أصل من أصول القضاء الإسلامي، فعن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ:“إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار” 2 ، هذه دعوة إلى موافقة الخطاب للفعل، من خلال مراقبة حياد الإدارة، وصيانة حرية الناخب، و تنفيذ التزام المنتخب. المقاربة القضائية العادلة هي أيضا مراقبة ذاتية، ومحاسبة فردية… وهي تصريح شاف، وجواب كاف لسؤال: عم ينتخبون…!؟ ألتزين المشهد السياسي، أم لتكريس الوضع الراهن، أم لمحاربة الفساد، أم للتطبيع معه، أم للمصلحة العامة، أم للمصلحة الخاصة، أم للحفاظ على المصالح و الامتيازات والمراكز…؟ وتأتي الأيام لتفصح عن النيات المبيتة، وتفضح الخطابات المزيفة، ويعري الواقع عن المنجزات الواهية، وعن البنية الهشة، وعن الفوارق المعمدة، وعن الاستحقاقات السخيفة، وعن شخصيات ألفهم المشهد السياسي تتعامل مع أبناء الشعب بوصاية كما يُتعامل مع فاقد وناقص الأهلية- حاشا الفضلاء – يحدث هذا نظرا لغياب الحياد الإداري، وتقييد حرية الناخب، وعدم وفاء المنتخب بالتزامه، وتسخير القضاء، وطمس إرادة الشعب.
قل لي متى تلتزم الإدارة الحياد، ومتى يتحرر الناخب ويكون مسؤولا، ومتى يلتزم المنتخب ويكون مؤهلا، ومتى يستقل القضاء ويكون عادلا؟ أقول لك إن هذا لا يخفى عليهم، ولا يجهلون أهميته، ويعلمون قدره. إنهم يحاولون، إنهم يجربون، إنهم يقلدون… ولكن، كيف، ومتى، وأين، وعمّ ينتخبون…!؟