اندفع قلمي نحو الباب بقوة، وأيقظني من نوم الغفلة جبرًا، لأكتب عن عنف أراه أحدَّ وأصعب من باقي أنواع العنف، بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، ألا وهو عنف يُمارَس على الروح في كل لحظة من حياتنا، تكون أضراره وخيمة لأنه يدمر دواخلنا، ويسرق السعادة منا في الدنيا والآخرة.
في الكثير من الأحيان؛ تمر علينا الساعات الطوال بدون وصل مع المولى عز وجل وسط ضجيج الدنيا وصخبها وملهياتها، متناسين تهذيب أرواحنا التي بها نسمو ونقاس، وبها نعلو أو ننزل عند الكريم الوهاب.
نقاء الروح وصفاؤها كان ديدن الصالحين، ومراد الطامحين، ومرمى السالكين. ولقد اجتهد السلف الصالح اجتهادًا كبيرًا، وأفْنَوا عمرًا للانتقال بها من الطينية الأرضية المرتبطة بالدنيا الفاتحة ذراعيها لملذاتها وشهواتها ونزواتها، إلى الارتقاء بها إلى المعالي؛ معالي المقامات، حيث الرفعة والطمأنينة والسعادة.
في كل يوم، أمارس عنفًا على روحي عندما أمنعها من فتح كتاب الله سماعًا وتلاوةً وتدبرًا، ولا أدعها تتذوق كلمات ربي الحلوة وتتنسم معانيه الشافية لعلل الروح الساقية للقلب.
أُعنفها عندما أتركها وضيعة، لا مطمح ولا غاية لها تُرجى من الله الغفور الرحيم.
أمارس عليها العنف عندما أتركها على هواها تنهشها مخالب المعاصي والزلات، وتذلها الشهوات والملذات، وتهوي بها إلى الدركات.
أعنفها عندما لا أخلو بها سويعات تذكر فيها الله، تهلل وتكبر، وتحمد الله الحنان المنان على أن أوقفها بين يديه، وهي المنكسرة الذليلة الطامعة في عفو الله، الراجية رحمته ورضاه.
أُعنفها بشدة عندما أتركها غير راغبة في الارتقاء والصعود إلى المقامات العلا، حيث الشوق واللذة والطمأنينة والراحة النفسية الأبدية في الدنيا قبل الآخرة، حيث المتعة التي لا توصف، والجمال والرونق، والإحساس العميق بلذة الطاعات وغصة الذنوب والزلات.
أُعنفها عندما أتركها دون تذكيرها بأن لها موعدًا مع الله لا بد له من استعداد.
أعنفها عندما أدعها تعطي فقط ما فضل من وقتها لخالقها وبارئها.
أمارس عنفًا على روحي عندما أتركها تائهة بدون صحبة صالحة تنير لها الطريق، تتشرب منها معاني الإيمان وتعينها للوصول إلى حب الله وحب نبيه صلى الله عليه وسلم.
أُعنفها عندما لا أجعلها تشتاق للجهاد لنيل الشهادة والفوز بالجنة، كما هو حال إخواننا في غزة، حيث أسمى أمانيهم هو الفوز بها.
أُعنف روحي حين أدعها ترى المنكر حلالًا وترى الحلال حرامًا، ولعل ما نراه في بلاد الحرمين لصورة واضحة على ذلك.
أُعنفها عندما أتركها تنام، ليس لها موعد بالأسحار مع رب الأرباب حين ينادي: “هل من مستغفر فأغفر له؟ وهل من سائل فأعطيه؟”.
فما المطلوب؟ وما السبيل للخروج من هذا الطريق المسدود؟ وكيف أمنع العنف عن نفسي كي أمنعه عن غيري؟
أول خطوة أخطوها؛ أن أتصالح مع روحي وأصالحها مع رب الأكوان، وأمنحها الثقة لتقوم بالأدوار الكبيرة وتنجز المهمات الجسام، وأجعلها تشرئب للحاق بركب الكُمَّل من الصالحات والصحابيات الجليلات اللواتي صنعن مجد الأمة بمعية الحبيب طبيب القلوب وطبها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أن أجعل مما تعتبره مشاق المنزل خيرًا ذا مذاق وعبادة عظمى تتقرب بها وتدخل بها على باب المولى عز وجل، تنال بها الدرجات العلا من الجنة، كما هو حال أمنا خديجة إذ نالت بخدمتها لأهل بيتها قصرًا في الجنة.
أن أجعلها مجاهدة بلا سيف ولا بندقية، يكفيها وقفة تقفها لنصرة أخيها المظلوم وقولها كلمة حق أمام إمام جائر.
أن أجعلها تحمل كتاب الله، تقرؤه وتتلوه وتحفظه بنية التنفيذ لا بنية التخلف والقعود.
أن أجعلها تفر إلى الله خفيفة وثقيلة، في السراء والضراء، تأنس بقربه وتنجلي عنها الظلمة في خلوته.
أن أجعلها دائمة اللوم والتأنيب لأنها طوال عمرها لم تحدث أمرًا.
هذه قوانين إلهية وطريق كل مؤمنة تنشد رضا الله، وتتمنى شفاعة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لابد من الالتزام بها للقضاء على هذا النوع الأقبح من العنف الممارَس على الروح.